الحـــق الـمر

الطب النبوي والطب النووي

يكتبه د. محمّد قماري/

قبل سنوات التقيت بالدكتور نضال قسوم، وهو نجل الأستاذ عبد الرزاق رئيس جمعية المسلمين الجزائريين، وهو إن شابه أباه في الخِلقة فقد آثر طريقًا آخر في العلم، فالدكتور نضال مختص في الفيزياء الفلكيّة، وإن بقيت فيه بقيّة من أثر الاهتمام بالفلسفة والفكر، وتلك البقيّة هي التي كانت سببًا في اجتماعنا ذات يوم في ملتقى دعا إليه المجلس الإسلامي الأعلى.
ولفت نظري من محاضرة الدكتور نضال، دفعه المستميت في الرد على القائلين بفكرة الاعجاز في القرآن الكريم والسنّة النبوية، وهو الأمر الذي أسعدني بقدر معلوم، فهو قد ذهب في دفعه المُنكر على أولئك المروجين إلى (إنكار) الفكرة من أساسها، وكان رأيي في الرد عليه عدم الوقوع في (الجرعة المفرطة)…
لقد صادف ذلك الدفع من قبل نضال هوى في نفسي، إذ كنت أرصد ظاهرة غريبة تولى كبرها قوم لا خلاق لهم في مجالات العلوم التطبيقية، اتخذوا لأنفسهم متكأً مريحًا، يغازلون من خلاله عواطف جمهور الأمة الإسلاميّة التي نضب عطاؤها العلمي، فجاء هؤلاء يعوّضون تلك (العقدة) تجاه الآخر المنتج الذي يكتشف عن سنن الله في الأنفس والآفاق، ويحولها إلى منتجات تخدم البشرية، واختزال كل ذلك في قراءة آية قرآنية أو حديث شريف على شاكلة أن تلك الكشوفات موجودة في القرآن والسنة.
ذلك هو المدخل الآثم في قضية (الإعجاز) الذي اتخذه بعضهم مخدرا يخفي آلام (العجز)، ومع وعيي بتلك المحاذير، فإنني لم أوافق الدكتور نضال في شططه الذي أراد من خلاله نسف الفكرة من قواعدها، فنحن ندرك جميعًا أن مُنزل الكتاب هو مزجي السحاب وخالق الأكوان، وهو سبحانه الخبير ومحسن التقدير (اللطيف)، فلا يمكن أن يأتي وصف في كتاب الله المقروء يخالف حال ما هو عليه في كتابه المنظور «أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ» (الملك/14).
والحقيقة أن هذه القضايا قد عرفها القدامى، وعرضت على الساحة الفكرية في تاريخ المسلمين، فهذا ابن رشد يكتب في (فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال)، وذاك ابن خلدون يبحث في الممارسة الطبيّة لصاحب الرسالة، صلى الله عليه وسلم، أهي توقيفيّة يجب اتباعها أم تجريبية تخضع لما يقول به أهل الفن في كل عصر؟
ولازلت أذكر أنني أحببت يوما أن أثير الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله، في بيته بقسنطينة وكنت أنتظر منه أن يثور في وجه طبيب يسأله في قضية خلافية، فما كان من الرجل إلا أن التفت إليّ في حنو وقال: يا بني إن كلام ابن خلدون سليم، غير أن النبي، صلى الله عليه وسلم، له روحانيّة كبرى، وقام ومدّ يده إلى أحد أدراج مكتبته وأهداني كتاب (الإسلام والطاقات المعطلة) من تأليفه.
وأعتقد أن الشيخ الغزالي رجل اجتمع فيه ما تفرق في غيره من دعاة المسلمين ومفكريهم، وربما هو أهم شخصية فكرية إسلامية في القرن العشرين، حيث جمع بين الفهم العميق لكليات الإسلام، والوعي بالمقاتل التي أصابت الأمة جراء انشغالها بفرعيات وقضايا جاءت من تطبيقات ليست بالضرورة صحيحة قامت بها أجيال في ظروف تاريخيّة مختلفة.
إن اشارة الشيخ إلى روحانيّة الرسول الكريم، هي ما فقدته الممارسة الطبيّة في العصر الحديث، فالإنسان ليس آلة تصلح أعطابها المادية أو ترمم، بل هو نفس وروح، يجب ألا يغفل الطبيب علاجها واشباعها، وطاقاتنا المعطلة هي التي لم تستطع سد هذا الفراغ، وذلك بالجمع بين أرقى وأحدث ما يريح الجسد، وأندى وأحسن ما تقر به النفس.
وما أحببت أن اتفق عليه مع أخي نضال، هو ألا يصرفنا تجار الإعجاز عن قضية الإعجاز نفسه، ففي نصوص الوحي ملامح واضحة في باب الإعجاز، منها ما تعلق بعلوم الأجنة مثلاً، ففيها وصف بديع لمختلف مراحل النمو لا تخطيها عين المنصف، وذلك هو الطبيعي والمنتظر عند أهل الإيمان.
ولقد رأيت من موقعي في مجال الطب كثيرا من الدجالين باسم (الطب النبوي) وأحيانًا الطب البديل، يحتالون على عباد الله، وربما تسببوا في تأجيل مواعيد علاجهم، ويغرونهم أن ما يقدمونه هو الطب النبوي أو أنه وحي يوحى، وقد أوردنا رأي ابن خلدون في القضيّة، كون صاحب الرسالة قد أخذ بأحسن تجارب المختصين من الأطباء في عصره.
وأذكر يوم أن ضقت ذرعًا بهؤلاء (الدجالين)، وهم يأكلون أموال الناس بالباطل، فكتبت مقالاً تحدثت فيه عما يقدمه الطب النووي في الكشف عن الأمراض والعلل، وداوى أولئك في حديثهم عن الطب النبوي.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com