إعمار الدنيا جوهر رسالة الاستخلاف/ د. إبراهيم نويري

مما لا شكّ فيه أن العلاقة بين الدنيا والآخرة وضبط تفاصيل ما يتعلق بهما ضمن معادلة واحدة دقيقة على نحو يكفل ويحقق مصالح العيش والمعاد، إنما هي قضية دقيقة وحساسة في الفكر الإسلامي، لارتباطها المؤكد بتقدم الأمة أو تخلفها، ازدهارها وانطلاقها، أو تراجعها ونكوصها القهقرى.
ولعله من المناسب قبل محاولة تسليط بعض الأضواء على هذه المعادلة في إطار الفكر الإسلامي الصحيح ، بيان معنى الزهد في الدنيا.
فمن التفاصيل الجيدة التي وردت في هذا السياق أن الزهد على ثلاث درجات أو مراتب، فهناك زهد الخائفين: وهو أن يكون المرغوب فيه هو النجاة من النار وعقاب الله في الآخرة ، وهناك زهد الراجين: ومعناه أن يزهد الزاهد رغبة ورجاءً في ثواب الله تعالى ونعيمه الذي أعده للمتقين في جنات النعيم. أما الدرجة الثالثة فتتعلّق بزهد العارفين: ومؤداه أن لا يكون للزاهد رغبة وأمنية سوى في الله ولقائه ورضوانه والنظر إلى وجهه الكريم.
إذا كان المعنى المشترك أو المستفاد من هذه المراتب هو الترفع عن الدنيا وغرورها، والتشوّق إلى الآخرة والتعلق بما أعدّه الله تعالى لعباده الصالحين في جنات النعيم، وفي الحياة الأبدية المشفوعة برضوان الله تعالى؛ فهل يمكن أو هل يصحّ للمسلم ــ من الزاوية الشرعية نفسهاــ أن يفهم أو أن يسبق إلى ذهنه بأن “الدنيا” لا تعنيه لأنها ليست دار القرار؟
الحق أن هذا الفهم إنما هو لون من ألوان الانتحار، كما هو وسيلة من وسائل تخريب الدين وإفساد العمران. يقول الشيخ محمد الغزالي: “إن الدين يذكّر حيث يُظنّ النسيان، ويكرّر حيث يُظنّ الإهمال، ويوقظ حيث تُظنّ الغفلة .. وليس يُفهم أبدا من الكلام عن الآخرة شلُّ الأيدي التي تعمل للدنيا؛ بيد أن المسلمين في عصور انهيارهم العقلي والخلقي، وهموا أن الاشتغال بالدنيا أمر منكر، فاضطربت في أيديهم مصالح الحياة ، وأدى بهم ذلك إلى شرٍّ لا بدّ منه، فضاعت من أيديهم مطالب الدين نفسه. وظلت مضاعفات هذا الغباء تترادف حتى سقطت دولة الإسلام، وأصبحت أرضه كلأً مباحاً للاستعمار الغربي واللصوصية الدولية” (الإسلام والمناهج الاشتراكية، ص 64).
فهل هناك أمل في أن لا تنطلي هذه السخافة العقلية مرة أخرى على الفكر الإسلامي الذي بات في صراع مرير مع الزمن، من أجل إنقاذ هذه الأمة، والعودة بها إلى موقع استئناف دورها الحضاري والإنساني الريادي الذي يليق برسالتها، وبكونها أمة شاهدة على الناس؟
ينبغي أن يعي عامة المسلمين وخاصتهم، بأن الإسلام لم يجعل التمكين في الدنيا والاستخلاف في الأرض أمراً تافهاً أو نشاطاً ثانوياً، بل إن القاعدة العامة في هذه الحياة تقضي بأن لا يُرشّح للسيادة في الأرض إلا الصالحون الجادون في إيصال الإنسان إلى مكانته الحقيقية، واستشعار دوره العتيد في الاستخلاف والتعمير والإصلاح والبناء. وقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة الناصعة في قول الله تعالى:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ}[الأنبياء:105/106].
إن الإسلام النابع من الفطرة الصحيحة، المنبثق من الطبيعة السليمة، الذاهب مع مسارح الفكر اليقظ كلّ مذهب، المغتبط بنتاج العقل الرشيد أيما اغتباط ، يعترض بشدة على الآراء والتصورات السلبية الهزيلة، تلك التي تنخر العقيدة، وتوهي عرى الدين باسم الزهد في الدنيا؛ وفي مقابل ذلك يرحب ترحيبا حماسياً حاراً بكلّ نظرة جادة يسعى صاحبها إلى الاستزادة من الخير واستثمار ما حباه الله به من مزايا ومواهب، بما يدعم مسار الإصلاح العام في الحياة والمجتمع، لذلك لم يجعل الإسلام في تعاليمه كلّها الإقبال على الدنيا دليل رقة في الدين أو ضعف في اليقين. بل إن الاستخلاف في الأرض لا يعني سوى إعمارها، واستخراج خيراتها بما يُرضي الله ويُسعد الإنسان.
لا بد أن تعرف الأجيال المسلمة الحاضرة والصاعدة والقادمة بأن فقر اليد وعدم السبق في كلّ شؤون الدنيا معناه باختصار ودقة: إلحاق الهزيمة بالعقيدة الإسلامية وإحراج الإسلام في شتى المجالات، وجعل سياسات الأقوياء لا تدور إلا في فلك التآمر علينا وإذلالنا على كلّ صعيد.