مدينــة عنابـــة بمنــاسبــــة مـــرور ثــلاثين قــرنــا علــى تأسـيـسـهـا الــــتراث الشعبي بمدينة عنابـــة (دراسة ميدانية)5

أ. د. محمد عيلان/
التراث هو ذلك النشاط الإنساني المتنوع الذي ولدته ظروف وأوضاع اقتصادية واجتماعية وثقافية وبيئية، وهو نشاط إبداعي تنهض بأغلبه طبقات متوسطة ودنيا تتجاوب معه، فتعكس من خلاله صدق المعاناة، وحقيقة الصراع الذي يحكم العلاقة بين الفئات العريضة من الناس على اختلاف أمزجتها وأنشطتها وسلوكها، وموقعها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي عبر التاريخ.
فالتراث الشعبي مخزون المجتمع من الإنجازات والإبداعات، ورصيده المثمن الذي لا يفند، يمده بمعاني القوة والاستمرار، ويحفظه من الذوبان والانسلاخ، فيحقق له هُويته وتفرده ليتميز عن سائر المجتمعات الأخرى، وهذا هو إبداع المجتمعات الشعبية عبر تواجدها الجغرافي والتاريخي، يرمز إليها ويشهد لها ويحوي تاريخها وتاريخ منجزاتها، وهو يرتبط بالإنسان ارتباطا عاطفيا ووجدانيا دون حدود، وأهم خاصية فيه هي أنه تراث ثَـرٌّ غني، يتوزع على مناطق حامليه ومستلهميه ومتمثليه. وهذا التنوع هو مصدر هذا الثراء، وهذا التراكم الذي نلحظه لدى المجتمعات والشعوب كالجداول ترفد النهر وتلتحم معه في جريان دائم، فيكوِّن المخزون الفكري والثقافي للإنسانية، وهو أيضا ملاذ وملهم للأجيال من الباحثين والدارسين وغيرهما، وإن كنا نحن دارسي الآداب والفنون لا ندرس منه إلا الحي الجاري في الاستعمال، لأن غيرنا من الدارسين الآخرين كعلماء الأنثروبولوجيا والتاريخ وعلم النفس والمعارف الأخرى، لهم فيه مجال للدراسة بحسب التخصص وبحسب الاهتمام. إننا ندرس ما ترسب وما بقي حيا بين الناس، مما يشكل حياتهم ويلونها ويؤثر في أنشطتهم وسلوكهم، فينشأ في ذلك تراث المجتمع الواحد(50).
ثم إن هذه المناطق التي ترفد تراث المجتمعات مما تبدعه ـ متأثرة بعوامل بيئية، تلتقي في أهداف مشتركة ومصالح محددة واضحة، وتطلعات وأحلام وآمال متساوقة، ومعنى ذلك أن ما يتكون منه هذا التراث في جانبه المنطوق، أو في جانبه التشكيلي المادي؛ من حرف وصناعات ومهارات ومنجزات؛ إبداع جماهيري، تـذوب فيــه ذات الفــرد وتبــرز فيه الذات الجمــعية التي هي ذات الشعب أو المجتمع، ولا يُسْتَوعب ذلك ولا يُمْنَح الخلود إلا إذا عبر عن الضمير الجمعي بصدق وإخلاص لتأكيد حضور الإبداع في الزمان والمكان، ووفقا للظروف النفسية والاجتماعية والثقافية، وتلك من مميزات التراث في المناطق وفي الوطن الأم.
إن التراث الشعبي ملك للشعوب يتناوله أفرادها ويتداولونه بحرية أخذا وعطاء واستعمالا وتقليدا وانتقاء، ولكن شيوعه وسريانه لا يأخذ تأشيرته إلا إذا حمل قيم المجتمعات، ووعى رغبتها وطموحها وآمالها، وعبر عن وجدانها، وإلا أُقصي من التداول والشيوع والذيوع.
ومن ظاهرة الشيوع والذيوع تبدو خصائص التداول للتراث الشعبي، وهي أن هذا التراث يتسم بسمة تطبع المنطوق منه في شكله ولغته، فتجده سريع التطور والتغير، كثير الصيغ والمفردات حيوي التفاعل، أي أن معجمه اللغوي غير ثابت، بخلاف عناصره المكونة للجوهر أو المضمون فإنها تتسع وتضيق بحكم الحاجة والزمن والظرف.
أما السمة التي تطبع التداول للأشكال المادية والحرفية وبعض الممارسات الفنية، فإنها تتواصل وتستمر بالتقليد والمحاكاة، وهي بطيئة التغير تتلقى الإضافات الجمالية والنفعية بحذر.
وعلى سبيل التمثيل (على بساطته) (الجبة النسائية / القندورة) فالجبة / القندورة؛ لباس نسائي جزائري أصيل ظل مُتوارثا إلى يومنا هذا، ومحافظا على شكله الذي وضع له أول مرة؛ من حيث ستر الجسم من الكتفين إلى الكعبين، فإن كان غير ذلك فليس بجبة، وطالما أنها كذلك فإن الجبة تعرضت إلى لمسات ذوقية عبر تاريخها، أضافتها إليها الأجيال النسائية المتعاقبة، فهذه تطرزها، وأخرى تضيف إليها كمين، وأخرى تجعل لها فتحتين في الأسفل من جهة الساقين لإظهار جماليات الحلي، وأخرى تضيف إليها لواحق جانبية مخيطة، وأخرى توشيها بخيوط ذهبية أو فضية، وأخرى تضيف إليها جيوبا.. وهكذا. فالإضافات كلها تطويرات ذوقية جمالية ونفعية ملائمة ومميزة لكل جيل، تسهم بدرجة عالية في إغناء لباس (الجبة النسائية/الكندورة) وثرائه عبر الزمن، ولكن (الجبة) باقية على صورتها الأولى رغم إضافات الأجيال ومرور الزمن.
وظاهرة التغير ظاهرة حتمية في التراث، لارتباطه بمؤثرات وعوامل نفسية واجتماعية وبيئية في إطار المسار الحضاري العام المشترك للأمم والشعوب .
وبرغم أهمية التدوين فإننا مازلنا لا نستطيع أن نستوعب مخزون التراث في المجال الصوتي والمعجمي.. وكذلك فإننا نجد متاحف العالم للفنون الشعبية تقف حائرة أمام انعدام وسائل كفيلة بحفظ كل الإبداعات الشعبية، لأن الفنان ليس كالآلة، فهو يضفي على ما ينجز من ذاته ومشاعره وعواطفه ونظرته وحاجات مجتمعه الذوقية والجمالية، ليخرج تحفة آية في الروعة والجمال، تبين الخصائص الجمالية والنفعية للشعوب والمجتمعات (ومن هنا تأتي الأهمية الثقافية للصناعات التقليدية).
إن هذا كله إبداع وهو كذلك (دائما) يُغَذِّي الحياة ويمدها بعناصر التواصل و الاستمرار. إنه القاعدة الخلفية لكل أديب أو مبدع ناشئ باللغة الفصحى؛ يستلهمه ليبني صرحا لذاته وذات شعبه أو مجتمعه.
وقد لا نستغرب بين الحين والآخر ونحن نقرأ أعمال بعض المبدعين فتَجِدُنا نجهد أنفسنا من أجل الوصول إلى الرموز والدلالات التي تضمنها العمل الإبداعي وشكلت مرتكزه، سواء أكان ذلك العمل إبداعا روائيا أم شعريا أم قصصيا .. استلهمه من خيال مجتمعه المتراكم ليغذي به خياله ويوسع مداركه، إن اتفاقا أو قصدا.
والشيء نفسه يقال عن بعض الترسبات التي تلون مهارات بعض الحرفيين، فإننا نجد أنفسنا مشدوهين حيالها لدرجة الحيرة، أمام عظمة الاستلهام ودقة التعبير، وخصوصية الإبداع النفسية والاجتماعية والثقافية.. وفعلا قد ننجح في فهم كل ذلك وقد لا ننجج؛ لأن ذلك يتوقف على مِقْدار وعينا بتراثنا، ودرجة حضوره في حياتنا وممارساتنا وسلوكنا.
الإبداع الشعبي في المدن:
الإبداع الشعبي الفني تفرزه المدن كما تفرزه الأرياف، وهو يسري فيها ويتشبع به أبناؤها ويمدهم بمعاني القوة والاستمرار، ويتجسد ذلك في المورث، ويبرز أكثر ما يبرز في التقاليد والعادات والآداب والفنون، والممارسات والمهارات والحرف والصناعات على اختلافها وعلى اتساعها، كما يبرز في الرسوم والأشكال والألوان والتعابير الحركية والصوتية، ومظاهر الفرجة في مناسبات طقسية أو احتفالية عامة أو خاصة، ومثل هذا الإبداع التلقائي الجماهيري الذي يسري في حياة الناس ويلوِّن أحاسيسهم ومشاعرهم ومظاهر حياتهم، لا يمكن أن تستوعبه الرواية الأدبية الحديثة، على ما يرى بعض النقاد من أنها الشكل الملائم المؤهل للتعبير عن هذا التفاعل الاجتماعي، وأنها هي التي تناولت المدينة ومنحتها عناية مميزة.
والواقع إن المدينة إذا أردنا أن نجد صورها الدقيقة الواضحة والخفية، الايجابية والسلبية العتيقة والحديثة..، فلنبحث عنها في الإبداع الشعبي، وصورتها فيه، وهي صورة لا يمكن أن تضاهيها عشرات الصور في الأعمال الروائية، مقارنة بصورتها في الإبداع الشعبي الشفوي أو المادي، لأن الرواية الأدبية تعيش على هامش هذا الإبداع، وتحاول أن تنقل بعضا من مظاهره في نوع من الانتقاء والتناسق على طبق أيديولوجي مستهدف مسبقا.
من هنا فإننا نرى تراكما معرفيا ضخما، يعد ثقافة مشتركة للمجتمعات، مكونا لها خصوصيات نوعية أفرزتها الطبقات المتفاعلة المتصارعة، وميزة هذا الاشتراك؛ هو أن عناصر الثقافة متقاربة في بيئات متعددة، ويتجلى ذلك بوضوح في الثقافة المرتبطة في كثير منها بالقيم الإسلامية في مدينة عنابة، وهي ثقافة بطيئة التغير، لكنها متحولة متلونة تاريخيا، تأخذ مسوحها ولبوسها من ثقافة عامة وشاملة سائدة ومرجعية وافدة أو ناشئة، تسري فيها وتؤثر فيها تأثيرا قويا، خاصة الثقافة الإسلامية، وهذه هي الثقافة الغالبة على جميع سكان بالجزائر.
يتبع