ثلاثية الحق في حفــــظ المجتمـــع من الخــــرق

أ. محمد مكركب/
أول ما يفكر فيه المصلحون الحكماء من الخلفاء وسائر الأمراء، ومن يشغلهم أمر الشعوب والأوطان وهم يتحملون كامل مسؤولياتهم بمقتضيات الإيمان، أنهم يفكرون كيف يحمون مجتمعهم من العلل والأمراض والخيانات الداخلية والخارجية التي قد تخرق مجتمعهم من داخله، أو تطعن وحدته وأمنه من خارجه. فأهم ما يركزون عليه حفظ الوحدة المجتمعية، بعناية الوعي السياسي والرعاية الإصلاحية الشاملة التي قوامها {ثلاثية الحق في حفظ المجتمع من الخرق}. وهي ثَلَاثة وثَلَاثة إذا غابت من منهاج السياسة غاب الإصلاح، وطال ليل التخلف، فلا يُنْتَظر الصباح!! قال الله تعالى:﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[النحل:90].
أول مبادئ الحفظ والإصلاح: (العدل). وإقامة العدل أن يكون كل شيء في المجتمع بالميزان الذي هو القانون المستمد من الشريعة. ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾. وثاني مبادئ الحفظ والإصلاح: الإحسان، وهو في لغة السياسيين النزاهة، والرجل المناسب في المنصب المناسب، والإحسان في التخطيط، ومنه الاستثمار بالإخلاص والإتقان بلا تسيب ولاخيانة، ولا غش، ولا تبذير. (وأما مفهوم الإحسان في منهاج الإيمان فقد عَرَّفه النبيُّ محمد صلى الله عليه وسلم في باب أصول الدين، في حديث جبريل عليه السلام).
وثالث المبادئ: حفظ الأسرة وحمايتها من أمراض المجون والانحلال والتشتت والتشرد والميوعة، وفي الآية:﴿وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ ومنها: حفظ الروابط الأسرية بكامل طهارتها النسبية، وصفاء ومتانة علاقاته الرحمية. والثلاثة الأخرى: النهي عن الفحشاء، وكل شيء جاوز حدَّه في القبح والفساد، فهو فاحِشٌ. وقد فَحُشَ الأمر بالضم فُحْشاً، وتفاحَشَ. ومن الفواحش الزنا بسبب انتشار الخمر والمخدرات، والكذب السياسي عند انتشار الأزمات، والخيانة الاقتصادية عند انتشار البطالة المقنعة. والمجتمع الذي تنتشر فيه مثل هذه الرذائل، يتمزق، ويعم فيه الظلم والباطل، قال الله تعالى:﴿وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ والمنكر: وهو كل قبيح وخبيث وما يخالف الشريعة. والبغي، وهو: الظلم والطغيان والفساد. والباغي هو المتمرد على المجتمع لنشر الفساد. قال الله تعالى:﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ﴾ وكل من امتنع عن فريضة من فرائض الإسلام كان باغيا، ولذلك قاتل أبو بكر مانعي الزكاة.
فأول ما يقوم عليه المجتمع الإنساني الفاضل هو العدل، لإلزام الناس الوفاء بعهود المواثيق، وعدم مخالفة الدين، وعدم التمرد على الوحدة المجتمعية، والقيام بحق المواطنة التامة بأن لا يُمَسَّ أمن المجتمع ﴿قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا﴾[الكهف: 86/88].
فقد ركز النبي صلى الله عليه وسلم في بناء مجتمع المدينة على وحدة المجتمع، وشدد في الدعوة إلى التزام جميع المواطنين بميثاق الوحدة المجتمعية. عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه، قال: ما عندنا شيء إلا كتاب الله، وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم:[المَدِينَةُ حَرَمٌ، مَا بَيْنَ عَائِرٍ إِلَى كَذَا، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ، وَقَالَ: ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ، وَلاَ عَدْلٌ، وَمَنْ تَوَلَّى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ، وَلاَ عَدْلٌ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: «عَدْلٌ: فِدَاءٌ»[البخاري: 1870].
ولعن الله من آوَى مُحْدِثًا. أي: مَن آوى أهل الْمَعَاصِي والجرائم، ذلك الذي يشاركهم في جرائمهم، فهو معهم فِي الْإِثْمِ. فإن من رضي فِعْلَ قومٍ شمله حكمهم، وَحُوسب على عملهم والْتَحَقَ بصفتهم.
وقوله فمن أَخْفَرَ بالخَاء الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ أَيْ نَقَضَ الْعَهْدَ يُقَالُ: خَفَرْتُهُ بِغَيْرِ أَلْفٍ أَمَّنْتُهُ، وَأَخْفَرْتُهُ نَقَضْتُ عَهْدَهُ.
من أهم مقاصد السياسة الحكيمة المحافظة على أمن المجتمع، والسعي على حفظ سلامة كل المواطنين. فقد نصت كل الشرائع التي أرسل بها الرسل عليهم الصلاة والسلام، منذ بداية المجتمعات البشرية، على أن من يسعى بالفتنة، أو يخون الأمة، أو يرفع السيف على الآمنين، فقد خالف الحق ووقع في الباطل. ففي الحديث عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا](مسلم:101).
فمن بين أعظم المواثيق ميثاق الوحدة المجتمعية، ومن سعى في نقضه كان كمن يحارب الله سبحانه ويحارب رسوله صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى:﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[المائدة:33/34].
وحكم الآية في كل من نقض العهد، وقطع السبيل، ومارس الإفساد في الأرض. قال المفسر السعد:{المحاربون لله ولرسوله، هم الذين بارزوه بالعداوة، وأفسدوا في الأرض بالكفر والقتل، وأخذ أموال الناس، وقطع السبيل عليهم. والمشهور أن هذه الآية الكريمة في أحكام قطاع الطريق، الذين يعرضون للناس في القرى والبوادي، فيغصبونهم أموالهم، ويقتلونهم، ويخيفونهم، فيمتنع الناس من سلوك الطريق التي هم بها، فتنقطع بذلك. فأخبر الله أن جزاءهم ونكالهم -عند إقامة الحد عليهم- أن يفعل بهم واحد من هذه الأمور}(ص: 229).
نزلت هذه الآية في شأن حكم النبي صلى الله عليه وسلم، في الْعُرَنِيِّينَ الذين أمنهم في المدينة وسمح لهم بأن يشربوا من ألبان الإبل، فلما أحسوا بالقوة والشفاء سرقوا الإبل وقتلوا الراعي وهربوا، فألقي عليهم القبض، وحكم عليهم بحكم الله تعالى كما تنص الآية. ومعلوم أن كل من يعصي الله ورسوله عن عمد، فهو يدخل في حكم الآية. وفي صحيح البخاري أن عمر بن عبد العزيز سأل أبا قلابة؟ ما تقول في شأن القصاص؟ قال:[مَا عَلِمْتُ نَفْسًا حَلَّ قَتْلُهَا فِي الإِسْلاَمِ، إِلَّا رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ، أَوْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عَنْبَسَةُ: حَدَّثَنَا أَنَسٌ، بِكَذَا وَكَذَا، قُلْتُ: إِيَّايَ حَدَّثَ أَنَسٌ، قَالَ: قَدِمَ قَوْمٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمُوهُ، فَقَالُوا: قَدْ اسْتَوْخَمْنَا هَذِهِ الأَرْضَ، فَقَالَ:[هَذِهِ نَعَمٌ لَنَا تَخْرُجُ، فَاخْرُجُوا فِيهَا فَاشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا] فَخَرَجُوا فِيهَا فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا، وَاسْتَصَحُّوا، ومَالُوا عَلَى الرَّاعِي فَقَتَلُوهُ، وَاطَّرَدُوا النَّعَمَ، فَمَا يُسْتَبْطَأُ مِنْ هَؤُلاَءِ؟ قَتَلُوا النَّفْسَ، وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ…](البخاري:4610) فشرع حكم الآية لمحاربة الفساد والمفسدين.