الولاء والبراء في ميزان الوحي وتحقيق الفقهاء (1)/ محمد مكركب
الولاء والبراء من المصطلحات الدقيقة في العقيدة والفكر، وللمصطلحين شرف وقيمة في العلم الشرعي، ولكن أهل الفكر الحروري، والغباء التنطعي أرجفوا كثيرا بتوظيف المصطلحين في غير موضعهما، كما وظفوا بجهلهم مصطلح البدعة والكفر بغير ميزان الشرع، فكانوا بتنطعهم وجهلهم بلاء في طريق الدعوة، أتعبوا العلماء وفتنوا العامة، وجعلوا حروريتهم الحمقاء، وتنطعهم الأعمى مطية لغير المسلمين كي يطعنوا في الإسلام والمسلمين. وهذا الذي دفع بكثير من العلماء ليكتبوا ويردوا عن شبهاتهم؛ ولولا غلو هؤلاء المتنطعين لكنا في غنى عن أتعاب كثيرة.
ونخصص هذا المقال -إن شاء الله تعالى- لمفهوم الولاء، وفي مقال ثان -بحول الله تعالى- عن معنى البراء، وذلك لهدف البيان الجامع بين مخاطبة العامة، وكذا المخطئين في استعمال المصطلحات الشرعية في غير محلها. وإلا فإن المنهجية تقتضي دراسة الموضوع [الولاء والبراء] في آن واحد.
1 ـ مفهوم الولاء لغة واصطلاحا:
الولاءُ من الولْي، وهو القرب والدنو، من الموالاة، وكل من تكافل وتآزر مع أخيه فهو يواليه، ومنه الإتباع والطاعة، ومنه الحب والنصرة والتأييد والمؤازرة. والموالاة ضد المعاداة، والولي ضد العدو، قال تعالى:﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾[مريم:45]، فالولاء اصطلاحا وشرعاً هو: إسلام الوجه لله تعالى عن حب وإخلاص وصدق ويقين بأنه هو الله الواحد الأحد الذي له الخلق والأمر، واتباع رسوله عن حب وطاعة، والتدين بالإسلام، والتزام جماعة المسلمين وعدم الخروج عن جماعة المسلمين قيد شبر. ونُصْرةُ الله تعالى ورسولِه ودينِ الإسلام واتباعِ إجماع المسلمين.
2ـ رسول الله يوصي بوحدة الجماعة:
ومن وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجوب الالتزام بالجماعة، قال: [وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن، السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع، ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من جثا جهنم]، فقال رجل: يا رسول الله وإن صلى وصام؟ قال: [وإن صلى وصام، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين، عباد الله] (الترمذي. كتاب الأمثال.2863).
3 ـ الولاء الحق في القرآن: قال الله تعالى:﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾[المائدة: 55/56]، فتبين من الآيتين: أن الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين. وعرف الله تعالى المؤمنين بالصفتين البارزتين المثبتتين للانتماء الحق، والدخول في الولاء العام بين المؤمنين، والتأكيد على بيان الصفتين، لغلق الباب في وجه الغلاة المتنطعين الذين يتبرؤون من مؤمنين بشبهات واتهامات وافتراءات. وهذا هو السر في ورود التفصيل بعد الإجمال في كثير من الآيات، منها قول الله تعالى:﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة:71]، فإذا سألت من هم المؤمنون الذين هم إخوانك تواليهم ويوالونك، ولا تقاطعهم ولا يقاطعونك؟ يقول الله تبارك وتعالى:﴿فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾[التوبة:11].
وفي الحديث الشريف. عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته] (البخاري.كتاب الصلاة.391).
4 ـ غفلة المتنطعين:
والغريب أن الغلاة من متنطعي هذا العصر أنهم يتبرؤون جهلا وحماقة من المؤمنين الذين يصلون معهم، ويزكون، ويصومون، ويحجون، ويذبحون بما شرع الله تعالى، وبما بين رسوله عليه الصلاة والسلام، ويأكلون ذبيحة المسلمين. لقد أصيب الإسلام بالفكر الحروري، والغلو التنطعي، ففتنوا الناس باستعمال [الولاء والبراء] بدون فهم ولا بصيرة، يُلَوِّحون بفتاوى مصاغة وفق فهومهم بعيدة عن مقاصد شريعة ربهم. إذن كيف يجب أن يكون المؤمنون؟ لا تحتاج جوابا أبلغ من كلام الله تبارك وتعالى، وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام. فمن كلام الله سبحانه:﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾[الحجرات:10] قال القرطبي رحمه الله: قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ أي في الدين والحرمة لا في النسب، ولهذا قيل: أخوة الدين أثبت من أخوة النسب، فإن أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين، وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا وكونوا عباد الله إخوانا].
5ـ مثل المؤمنين في ولائهم:
ومن الحديث، عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى] (مسلم.كتاب البر.2586).
أبعْدَ هذا يأتي متنطع يهجر أخاه بفتوى حمقاء، وتهمة رعناء من ملوح بحديث أو قول عالم لا يعلم معناه ولا مقصده، وأكثر من ذلك قد يتطاول بجهله على عالم يقاطعه ويتهمه ويثلج صدر أعداء الإسلام عندما يرون المسلمين يبدع بعضهم بعضا، ويفسق بعضهم بعضا. وما أكثر المتنطعين الذين خدموا أعداء الدين بجاهليتهم. فبحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، فالمسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم.
وقد علمتم من الآية:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة:55]، أن من عادى أولياء الله فقد عاداه، ومن عاداه فقد حاربه؛ ولهذا جاء في الحديث: [ومن عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة]، وفي رواية: [من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب]. ولما أوجب الله الأخوة والمحبة والموالاة والنصرة بين المؤمنين، وجعل ذلك فريضة ملزمة، ونهى عن موالاة الشياطين والكافرين كلهم، فقد اقتضى هذا المبدأ الواضح أن كل مؤمن تجب محبته، وموالاته، ونصرته.
6ـ أولياء الله تعالى الصادقون:
فمن هم أولياء الله تعالى؟
والجواب من رب العالمين الرحمن الرحيم:﴿أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ﴾[يونس: 62،63].
قال الرازي رحمه الله في تفسير الآيتين:”ظهر في علم الاشتقاق أن تركيب الواو واللام والياء يدل على معنى القرب، فولي كل شيء هو الذي يكون قريبا منه، والقرب من الله تعالى بالمكان والجهة محال، فالقرب منه إنما يكون إذا كان القلب مستغرقا في نور معرفة الله تعالى سبحانه، فإن رأى – رأى دلائل قدرة الله، وإن سمع – سمع آيات الله وإن نطق – نطق بالثناء على الله، وإن تحرك – تحرك في خدمة الله، وإن اجتهد – اجتهد في طاعة الله، فهنالك يكون في غاية القرب من الله، فهذا الشخص يكون وليا لله تعالى، وإذا كان كذلك كان الله تعالى وليا له أيضا كما قال الله تعالى:{اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ}[البقرة257:]، ويجب أن يكون الأمر كذلك، لأن القرب لا يحصل إلا من الجانبين. وقال المتكلمون: ولي الله من يكون آتيا بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل، ويكون آتيا بالأعمال الصالحة على وفق ما وردت به الشريعة، فهذا كلام مختصر في تفسير الولي”.
وقال ابن عاشور رحمه الله: في تفسير:﴿أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ﴾[يونس:62] وَالْوَلِيُّ: الْمُوَالِي، أَيِ الْمُحَالِفُ وَالنَّاصِرُ. وَكُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْوَلْيِ (بِسُكُونِ اللَّامِ)، وَهُوَ الْقُرْبُ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْوَلِيِّ.
7ـ خلاصة المقال:
والخلاصة: أن الولاء بين المؤمنين فريضة واجبة، وأن المؤمنين هم من سماهم الله تعالى مؤمنين فيما سبق من الآيات البينات المحكمات، وعرفهم بحكمه جل جلاله، فلا يجوز لمؤمن أن يهجر مؤمنا، ولا أن يقاطعه، ولا أن يتهمه.