في ظــــلال السنـــة النبويـــة الشريفـــة / شـــروط ضروريـــة لتــذوق الحــــلاوة الإيمانيـــة(4)

أ.د/ مسعود فلوسي*/
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلَاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ حَلَاوَةَ الإيمَانِ: أنْ يَكونَ اللَّهُ ورَسولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا سِوَاهُمَا، وأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ، وأَنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ في الكُفْرِ كما يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ».
المؤمن يكره الكفر
الخصلة الثالثة من الخصال المؤهلة لتذوق الحلاوة الإيمانية: «أَنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ في الكُفْرِ كما يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ»، وفي رواية: «وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار». أي أن المؤمن الصادق لا يخطر في باله نهائياً أن يعود إلى الكفر، إطلاقا، وحتى إذا خطر في باله هذا الأمر فلا يمكن أن تتقبل أن يتصور نفسه وقد أصبح في يوم من الأيام كافرا أو منقلبا إلى الكفر والعياذ بالله.
رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا يعطينا لفتة، يقول: «وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه» كما في الرواية الثانية.. الإنقاذ كيف يكون؟
عندما يكون إنسان على وشك التهلكة، أي مشرفا على الهلاك، فيأتي من يأخذ بيده ويخرجه إلى بر الأمان هذا هو معنى الإنقاذ، إخراج إنسان مشرف على الضياع والهلاك من المأزق الذي وقع فيه والأخذ بيده إلى الأمان والسلامة. فكذلك الكفر عبارة عن تهلكة، الكفر عبارة عن بئر عميقة لا قرار لها، الكفر عبارة عن بحر خضم هائج أمواجه متلاطمة لا يمكن لإنسان أن ينجو إذا بقي فيه.
هذه صورة الكفر، ولذلك فالإنسان المؤمن يعرف أن رب العالمين أنقذه من التهلكة، ويعرف معنى الإيمان، ومعنى أنه مؤمن وليس كافرا، يعرف أن الله أنقذه، يعرف أن الله أخذ بيده وسحبه من حال الهلاك والضياع والغرق إلى حال السلامة والأمان والطمأنينة.
المؤمن يعرف معنى الإيمان، لأن الإيمان هو تعلق بالله عز وجل، هو تنعم بعبادته سبحانه وتعالى، هو عيش في رحاب الله عز وجل، هو شعور بالتواصل مع الله سبحانه وتعالى، هو إحساس بلذة الإيمان وبلذة العبادة وبلذة الطاعة وبلذة الذكر وبلذة مراقبة الله عز وجل وبلذة الخوف منه سبحانه وتعالى.
فالإيمان نعمة عظيمة ينعم الله عز وجل بها على من يشاء من عباده.
والدليل ما نراه في الدنيا، فليس كل الناس أعطاهم الله هذه النعمة، وليس كل الناس وفقوا لهذا الخير الذي هو الإيمان. فرب العالمين أنقذنا بهذا الإيمان وتفضل علينا بهذا الفضل، وعلينا أن نستشعره ونعرف قيمته.
ولكي تعرف قيمة الإيمان والطاعة، عليك أن تتصور نفسك في حالة المعصية كيف تكون؟ فالإنسان يعرف قيمة نعمة الإيمان عندما يقارنها مع ما يكون فيه العصاة والضالون والمنحرفون.
الإيمان، إذن إنقاذ من الله عز وجل للإنسان، ولذلك الإنسان المؤمن يكره بشدة أن يعود إلى ما كان عليه قبل أن ينقذه الله بالإيمان.
الكفر نار حارقة
النار تحرق، والإحراق أشد أنواع العذاب.
المؤمن لا يقبل أن يُرمى في النار، ولذلك لا يقبل أن يعود في الكفر، لأن الكفر نار.
كما أن النار تحرق الجانب الحسي، الكفر يحرق الجانب المعنوي من حياة الإنسان.
الإنسان لماذا هو إنسان؟ بالإيمان، بالعيش في رحاب الله عز وجل، باتباع أوامر الله سبحانه وتعالى وترك ما نهى عنه. يحقق الإنسان إنسانيته عندما يحقق العبودية، لأن الله عز وجل خلقه ليعبده، فعندما يعبد الله يكون إنسانا على الحقيقة، وعندما يتخلى عن هذه المهمة ويعصي رب العالمين تغيب إنسانيته ولا يكون حينئذ إنسانا على الحقيقة، بل يكون مجرد كائن غافل عن مهمته وغافل عن حقيقته، فلا يعيش حقيقته كإنسان، لأن رب العالمين يقول: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، فمن لا يعبد الله لا يعتبر إنسانا على الحقيقة، وإنما يكون إنسانا حين يحقق وصف العبودية لله عز وجل.
الإنسان عندما يخرج عن إنسانيته يحترق، كالشيء الذي ترميه في النار فأنت تحرقه، كذلك الإنسان حين يبتعد عن ربه عز وجل ويتبع الشيطان أو يتبع النفس الامارة بالسوء أو يخوض في شهوات الدنيا المحرمة فهو يحرق نفسه ويحرق شخصيته الإنسانية.
الكفر نار حارقة، ولذلك المؤمن لا يرضى لنفسه أن يحترق، خاصة الإنسان الذي جرب الكفر ثم أكرمه رب العالمين بالإيمان، هذا يعرف معنى الكفر ومعنى البعد عن الله عز وجل ومعنى أن يكون الإنسان تابعا ذليلا للشيطان، يعرف معنى ذلك كله، ولذلك يحس بأنه لما رجع إلى الله عز وجل ولما صار عبدا لله سبحانه وتعالى صار يحس بأنه ارتفع وصارت له قيمة ومكانة عالية، لأن الكفر حضيض والإيمان قيمة، ولا يقبل بالحضيض إلا السفلة الذين لا قيمة لهم والذين لا يشعرون بأهمية وجودهم في هذه الدنيا.
الكفر طمس للحقيقة
الكفر، إذن نار حارقة، لماذا؟ الكفر هو التغطية، هو الطمس، هو الإخفاء، فكلمة كفر في اللغة العربية معناها أخفى وطمس وستر وغطى الشيء حتى لا يظهر.
فالكفر هو طمس للحقيقة، الحقيقة ظاهرة يريد الكافر أن يطمسها، فيأتي بغطاء يغطيها به حتى لا تظهر، هذا هو الكفر.
الكافر ماذا يخفي؟ ما هي الحقيقة التي يخفيها الكافر ويغطي عليها ويريد أن يطمسها؟ إنها الفطرة التي فطر الله عز وجل الناس عليها، و الفطرة هي الإيمان الذي خلق الله عليه الإنسان.
عن مطرف بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلتُه عبدًا حلالٌ، وإني خلقت عبادي ضعفاء حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا…» [رواه مسلم]. فكل إنسان في أي مكان في هذا العالم، عندما يولد في هذه الدنيا، يولد مؤمنا، سواء ولد في بيت مؤمنين أو في بيت كافرين، ولكن الشياطين لم تتركهم على فطرتهم فساقت هذا إلى النصرانية، وقادت هذا إلى اليهودية، وجذبت هذا إلى المجوسية، وهكذا.
وفي الحديث النبوي الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُل مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» [رواه الشيخان].
فما من إنسان إلا ويولد مؤمنا، فالحقيقة هي حقيقة الإيمان بالله عز وجل، الحقيقة هي أن الناس كلهم فيهم الاستعداد للإيمان بالله عز وجل وعدم الكفر به، ولكن نتيجة التغطية التي تجري على هذه الفطرة، بالتربية، بالبيئة التي يوجد فيها الإنسان، بالمصاحبة، بما يُعَلم هذا الإنسان ويُلقن، هذه الفطرة تُغطَّى شيئا فشيئا حتى تنطمس، وهذا هو الكفر، الكفر هو تغطية الفطرة، الكفر هو طمس الاستعداد بالإيمان في قلب الإنسان، الكفر هو ستر الحقيقة عن عين الإنسان بحيث لا يراها فيتبع سبل الكفر ويبتعد عن سبيل الصواب وسبيل الحق وهو سبيل الإيمان.
مظاهر احتراق الكافر في الدنيا
الكفر، إذن، هو تغطية للحقيقة وطمس للإيمان، الكفر سبب لاحتراق الإنسان في هذه الدنيا.
أين ينشأ الميل إلى الانتحار في حياة الإنسان؟ ينشأ في ظل الكفر، الإنسان المؤمن لا يلجأ إلى الانتحار أبدا، لأنه يعرف أن كل ما يختاره له ربه عز وجل هو خير له، والحديث النبوي الشريف يقول: «عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ» [رواه مسلم]، لأنه يعرف أن كل ما يأتيه من الله عز وجل فهو خير له وهو مصلحة، ولذلك إذا جاءه ما يسره فهو يحمد الله عز وجل، وإذا جاءه ما يشعر معه بالضرر وبالمشقة فهو يصبر لله لأنه يعرف أن الله لم يقدر عليه هذا إلا وله فيه خير ومصلحة. ولذلك، قد تجد المؤمن فقيرا معدما لا يملك قوت يومه، ومع ذلك تجده يستبشر ويقول: الحمد لله. تجد المؤمن مريضا بداء عضال يعاني معه آلاما مبرحة، ومع ذلك عندما تسأله عن حاله يقول لك: نحن في رحمة الله.
من أين جاء هذا؟ من الإيمان. لكن عندما يكون الإنسان كافرا، تجده دائما يشتكي، فإذا جاءه الخير من الله عز وجل تجده يتجبر ويتكبر لأنه لا يعلم أو يتجاهل أن هذا الخير من الله، وإذا جاءه الضرر تجده يشتكي ويبكي ولا يترك أحدا إلا واشتكى إليه أو مكانا إلا واشتكى فيه، فهو يشكو ربه إلى الناس لأنه لا يعرف أن ذلك يمكن أن يكون خيرا بالنسبة له.
فرق كبير، إذن؛ بين المؤمن والكافر، المؤمن يأتيه البلاء فيحس معه بنعمة الله، أما الكافر فهو في كل الحالات يحس بالشقاء، لماذا؟ لأن الكافر لا يحسُّ بالسند، لا يحس أن هناك من يسنده في هذه الدنيا، حتى والديه وأولاده لا يثق فيهم، وعندما يحتاجهم لا يجدهم، وهذا أمر معروف ومشاهد في بلاد الكفر. ولأن الكافر يشعر أنه لا يوجد من يسنده في هذه الحياة، فهو يشعر بنفسه أنه مجرد هباءة في مهب الريح، لا يطمئن لشيء، ولذلك تجده يلجأ إلى الخمر وإلى المخدرات وينغمس في المعاصي والمنكرات حتى يغطي ما يشعر به من خوف ومن ضياع وينسى الهموم التي تقض مضجعه وتزلزل كيانه.
الكفر أشنع أنواع الظلم
ثم إن الكفر ظلم، بل من أفظع أنواع الظلم، هو ظلم لله سبحانه وتعالى، الوجود كله يسبح بحمد الله، كل الكائنات تسبح بحمد ربها سبحانه وتعالى ماعدا الكافرين من الثقلين الإنس والجن فهم لا يريدون أن يسبحوا الله تعالى بل يتنكرون لحقه عز وجل عليهم، أليس هذا ظلما؟
والكفر ظلم للنفس، فالإنسان عندما يكفر يكون قد أهان نفسه، فكيف ينتظر بعد ذلك الإكرام؟ الكفر إهانة للنفس، لأن الإنسان لا يجد كرامته إلا حين يعبد ربه، عندما يترك هذا الموقع يسقط في الإهانة، فيصبح مهانا ومتعرضا للإهانة.
الكون كله يتضرر من الكافر، فبسبب الكفر فسد الكون كله: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41]، لأن الإنسان عندما يكفر سيرتكب المعاصي، وكل معصية ترتكب تكون تشويها للكون وتشويها للبيئة.
الكفر إفساد في كل شيء وتشويه لكل الحقائق وطمس لها، ولذلك المؤمن «يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار».