غارودي المنحرف…

يكتبه د. محمّد قماري/
لا أتذكر ذلك التاريخ على وجه التحديد، لكن أتذكر أنني كنت تلميذا في بداية مرحلة التعليم الاكمالي (المتوسط)، يوم اشتريت كتابا زهيد الثمن عنوانه (منعطف الاشتراكيّة الكبير)، وكان على غلافه صورة مؤلفه (روجيه غارودي)، ولم أفهم شيئًا من تصفحي للكتاب، فالرجل كان يعالج أزمة الفكر الاشتراكي، وأنى لي في تلك السن أن أنفذ لفك تلك الألغاز المستعصيّة.
وكم شعرت بالسعادة يوم انتزع مني الكتاب أحد المعلمين، وهو يعنفني ويحذرني من مغبة الوقوع في أفكار (الكفر)، وبدا لي هذا التعنيف تشريفًا، فأنا في نظر ذلك المعلم قادر على فهم محتوى ذلك الكتاب، أو هكذا بدا لي الموقف !
وبعد ذلك بسنوات قليلة قرأت في مجلة (الأمّة) القطرية، أن صاحب تلك الصورة السمحة التي كانت على غلاف كتاب (الكفر) قد دخل الإسلام، واصبح يحمل اسم (رجاء) بدل روجي، ولم أكن أعرف بطبيعة الحال شيئًا من أخبار المعركة التي رافقت إسلام غارودي في الأوساط الغربيّة، بل قرأت على صفحات مجلة (الأمّة) مقالات كتبها علماء يردون على غارودي لأنه ينزع في تدينه إلى (الصوفيّة)، فكان الرجل وقتها يخوض معركتين.
معركة ضارية مع (رفاق) الأمس في الحزب الشيوعي والأممية الاشتراكية التي فقدت أحد كبار منظريها، ويرفدها في حربها على غارودي أقلام غربيّة من غير الشيوعيين رأت في تحوله إلى دين الإسلام ضربة قاسية للمنظومة الغربية، فالرجل ليس واحدا من العامة، فهو مفكر مرموق كان يحظى بهالة من التعظيم والرعاية، ويكفي أن موريس توريز وجورج مارشي في الحزب الشيوعي الفرنسي ينزلونه منزلة (نبي) الفكر الاشتراكي.
ومعركة أخرى في العالم العربي مع شيوخ، ربما كان ينتظر بعضهم أن يعلن ختانه مع إعلان اسلامه، يعيبون عليه نزعته الصوفية، وغفلوا أو جهلوا أن الرجل قد دخل العقد السابع من عمره، بعد رحلة فكرية طويلة خاضها مع الفكر المادي بكل قساوته، وأن روحه عطشى لحمام روحي دافئ، ثم أنه تربى في بيئة نصرانيّة عاشت على ميراث التنسك والرهبانيّة، وكان الأجدى تدوين وترويج موقف مفكر يعلن أن (الإسلام دين المستقبل)…ومن الجهل ما قتل!
المؤكد أن اولئك الشيوخ الطيبين لا يعرفون معارك غارودي السابقة في تعرية الفكر الغربي، لا يعرفون ذلك البيان المدوي في الرد على أندرية مالرو (André Malraux) سنة 1947 تحت عنوان (أدب مخادع)، ولا يعرفون تمريغه لجون بول سارتر في التراب بمنشوره (النبي الكاذب)، حيث وجه له الخطاب: (إن الفكر عندما ينخلع عن الفعل، هو فكر مريض، وذلك المرض له اسم اليوم هو الواقعية).
دخل غارودي الإسلام في سنة 1982، وفي يوم 30 جويلية 1983 نشر على صفحات يومية (لوموند) مقالا تحت عنوان (لماذا أنا مسلم؟)، وقدم دخوله للإسلام كخلاصة لبحث روحي طويل، وقال: «إن الإسلام دين لا ينحصر في زمن تاريخي محدد لكن الدين الذي يشمل كل الأزمان…وفيه تختزل كل العقائد السابقة» ويستجيب لحاجة البشر في الإخاء.
وقتها استعرت نار علا شررها، فقد كتب على صفحات الصحيفة ذاتها جون بيار بيرنسال (القيامة الإسلامية لروجي غارودي)، ومقالات أخرى بالحدة نفسها، منها تلك الرسالة التي نشرها مهدي موزفاري الكاتب الإيراني تحت عنوان (تعدد الزوجات الايديولوجي)، فلقد كتب من الدنمارك محذرا غارودي (استسمح في أنبه رجاء أن تحوله الجديد إلى الإسلام لن تكون إلا الرحلة الأخيرة، فإن كانت المسيحية والشيوعية اليوم تبيح لأتباعها تغيير دينهم أو ايديولوجيتهم، فذلك للأسف ليس حال الإسلام، فوفقا لأحكام القرآن: كل مسلم يبدل دينه يعتبر مرتدا، ويحكم عليه بالقتل! ).
وانتقلت المعركة بعد ذلك لصحف فرنسية أخرى كـ(الفيغارو)، وكلها كتابات تكفر بتراث رجل كان إلى وقت قريب يحسب لآرائه ألف حساب، ويحسب من كبار منظري الفكر عموما والفكر الشيوعي على وجه أخص، وأظهرت المعركة (أصولية) الغربيين فالاجتهاد لا يجوز خارج نسق المنظومة الغربية، وينحط الخطاب إلى دركات طفولية، تسعى إلى قتل المرتد عن (المعبد الغربي) معنويا.
وكانت محنة رجاء غارودي (المنحرف) كبيرة وعاصفة، يوم أن لمس أحد الأصنام أو الخطوط الحارقة، فبعد أن نشر كتابه (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية) واجه الرجل حملة شعواء، حمل لواءها جمع غفير من أهل الفكر والإعلام والسياسة والأدب، وانتهت القضية على أبواب المحاكم والقضاء…
انتهت في مؤداها الصوري الإجرائي، لكنها لم تنته على مستوى (الاغتيال المعنوي)، لرجل كل ذنبه أنه حاول ازاحة (نواظر الدابة)، فالمنظومة الغربيّة تسمح بالاجتهاد وإبداء الرأي داخل الخط المرسوم والمعّلم، لكنها تمنع كل اجتهاد يحيد عنه.