مساهمات

ضرورة إعادة الاعتبار لكتب التراجم في واقعنا الثقافي

د. إبراهيم نويري */

يهتم بعض القراء بمطالعة كتب التراجم والسير الذاتية والاجتماعية، من منطلق أن المضامين المعرفية لهذه الكتب متصلة بنماذج إنسانية مضيئة في حركة التاريخ العربي والإسلامي والإنساني، وأكثر هذه النماذج يُعدّ مثالاً وقدوة لجمهور عريض من الناس والقراء والباحثين، ومن تلك النماذج المضيئة: الأنبياء والنوابغ والمخترعون والأبطال والمبدعون والزهاد وأصحاب الشيم والأخلاق العالية والسير الزاكية و«ذوو النباهة» بتعبير ابن خلّكان رحمه الله صاحب موسوعة وفيات الأعيان .. إلخ ..
ثمّة حقيقة واضحة متصلة بتباين الدوافع لدى مَنْ يكتبون كتب التراجم، ومَنْ يُقبلون على قراءتها ودراسة مضامينها، وهذا التباين يثير بحق العديد من الإشكالات والتساؤلات المشروعة الوجيهة .. ولقد حاول أديب العربية الألمعي النابه الأستاذ عباس محمود العقاد ـ رحمه الله ـ الإجابة على جوانب من هذه التساؤلات واستطاع ـ من وجهة نظره الخاصة ـ حصر هذه الدوافع أو أهمها على الأقل في النقاط الآتية :
1ـ إرضاء الشغف النفسي، بالوقوف على كلّ سر، لاسيما خفايا النفس الإنسانية، التي تُعدّ من أهم ما يشغل بال الإنسان ويستجيش عطفه وتفكيره.
2ـ محاولة إنصاف العظماء وتقديرهم وإعطائهم حقهم من جزاء التبجيل والإعجاب.
3ـ حث المقتدين بتلك النماذج الإنسانية المضيئة، على ترسم خطاهم والتطلع إلى مراتبهم .
ثم أردف العقاد رحمه الله مستتلياً: «وفي كلّ غرض من هذه الأغراض لا ينفعنا أن ننفي عنصر الغرابة والتقديس من تراجم العظماء، أو ندمجه في سياق العرف المألوف، إذ العرف المألوف لا يستفزّ القدوة ولا ينصف العظمة ولا يبعث الشوق إلى المعرفة، فإبراز جوانب الغرابة والتنويه بها هو الأساس في تراجم الأفذاذ الذين ما كانوا أفذاذاً إلاّ لأنهم غرباء يختلفون عن سواد الناس..»(ساعات بين الكتب ص 531).
من وجهة نظري لا أخال أحداً من الباحثين ينكر هذه الفوائد التي ذكرها الأستاذ العقاد، لكن يمكنني التنبيه أيضا إلى أنها لا تمثل إلا جانباً واحداً من المسألة، وهو جانب يتعلق بخصائص وشمائل المترجم له، ومدى أثرها وحدود قابليتها لكي يقتدي بها الآخرون .. أما الجانب الآخر لأهمية قراءة كتب التراجم والبحث فيها، فيتمثل في المعلومات الغزيرة التي يوردها المؤلف كجزء من الأحداث التي تفاعل معها المترجم له، والبيئة العامة التي عاش بين جنباتها وتفيأ آثارها وفصولها؛ وفي هذا البعد يجد القارئ معلومات كثيرة ذات صبغة تاريخية وجغرافية وسياسية واجتماعية وأدبية وفنية وإنسانية .. إلخ.
إن هذا الجانب ـ فيما أرى ـ أهم من الجانب الشخصي في كتب التراجم، بل إن العناصر المكوِّنة لهذا الجانب هي التي نبّهت العلامة عبد الرحمن بن خلدون إلى تأسيس فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع البشري ومعارف العمران وسنن قيام الدول وأفولها. ففي كتب التراجم نتعرّف على شخصيات سياسية وعلمية عاصرها المترجم له، كما نحيط علماً بالكثير من خلفيات وتداعيات الأحداث والصراعات والوقائع، ونضيف إلى رصيدنا الثقافي شذرات ومعلومات متنوعة عن البلدان والمدائن والطرق والمواصلات والجبال والبحار والأنهار والعادات والتقاليد، وما إلى ذلك من معالم ووقائع وقَسَمات اجتماعية وتاريخية وثقافية، قد يتعذر تحصيلها في غير كتب التراجم.
ولقد تفطن إلى قيمة وأهمية الظروف الخارجية التي تحيط بالمترجم له، كُتاب ومفكرون كثيرون ممن كتبوا وترجموا لأعلام وشخصيات مختلفة، ومن هؤلاء الكتاب الدكتور طه حسين رحمه الله، الذي نجده يقر هذا المنهج ويرجّحه على غيره من مناهج تأليف التراجم، حيث يقول في مطلع كتابه الشهير (قادة الفكر): «وحسبنا أننا سنعرض في هذه الفصول لا لتاريخ أشخاص بعينهم، بل لتاريخ العقل الإنساني وما اعترضه من ضروب التطور وألوان الاستحالة والرقي حتى انتهى إلى حيث هو الآن.
على أني لا أريد أن أبدأ البحث قبل أن أقدم بين يديه تنبيهاً للقراء أرى أنه ليس منه بد؛ فقد تعوّد الناس في الشرق عامة وفي مصر خاصة، أن يفهموا من مثل هذا العنوان الذي قدمته، أن عناية الكاتب والباحث ستتناول الأشخاص وتقصر عليهم، فلفظ ( قادة الفكر) إذا سمعه القارئ المصري أو الشرقي، فهم منه لأول وهلة، طائفة من الأشخاص لهم أثر يختلف قوةً وضعفاً في تكوين الحياة الفكرية العامة في جيل من الأجيال أو في بلد من البلاد، ثم اتصل ذهنه بهؤلاء الأشخاص، وانتظر من الكاتب أن يقص عليه أطرافاً من حياتهم، وما اعترضها من خطوب، وما اختلف عليها من محن ..».
ثم يستتلي في كلامه موضحاً معالم المنهج الذي يؤثره في الكتابة عن أعلام الفكر والثقافة والفلسفة والاجتماع والأدب ونحو ذلك من المعارف فيقول: «وهذا النحو من البحث مألوف شائع، ولكني سأعدل عنه، وسأكون شديد الاقتصاد في ذكر الحوادث والأخبار والتواريخ التي تتصل بحياة الأشخاص الذين سأعرض لهم في هذه الفصول؛ لا لأني أهمل هؤلاء الأشخاص إهمالاً، أو أنسى تأثيرهم العظيم في البيئة التي نشأوا فيها، بل لأن لي رأياً أظن أنه هو الرأي المقرر الآن عند الذين يعنون بتاريخ الآداب والآراء، وهو أن هذه الآداب والآراء على اختلافها وتباين فنونها ومنازعها، ظواهر اجتماعية أكثر منها ظواهر فردية، أي أنها أثر من آثار الجماعة والبيئة أكثر من أن تكون أثراً من آثار الفرد الذي رآها وأذاعها. وإذا كان الأمر كذلك، فليس من الحق في شيء أن تنسى الجماعة التي هي المؤثر الأول في ظهور الآداب والآراء الفلسفية، وتقصر عنايتك على الفرد الذي كان مظهراً لهذه الآداب أو لهذه الآراء ..»(قادة الفكر ص 4).
مما لا شكّ فيه أن معظم كتب التراجم والسير مُترعة بالمعلومات التي تخصّ الشخص المترجم له أو المُحتفى به، وهذا حقّ من حقوق هؤلاء الأعلام على جمهور القراء؛ بيد أن الحرص على الإفادة من الأحداث وواقع العصر وطبيعة البيئة التي نشأ فيها هؤلاء الأعلام وتفاعلوا معها إيجاباً وسلباً على حد سواء، يُعدّ مطلباً بالغ الأهمية بالنسبة لمن يُقبلون على مطالعة هذا اللون الأثير من المؤلفات.
وهذه الملاحظة المنهجية مهمة جداً خاصة للباحثين الذين يعنون بصياغة وضبط المعادلات الاجتماعية وبأثر الأفكار الحية في صناعة النماذج الإنسانية المؤثرة في حركة التاريخ ضمن نطاق واقع اجتماعي معين، أو ضمن خط فكري معيّن أو مستوى بعينه من مستويات البناء الاجتماعي والتغيير الحضاري .

* باحث جامعي

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com