الأرخنة: مدخل «التنوير» إلى التشويش على النور
أ.د. عبد الملك بومنجل/
سنظل نضع مصطلح التنوير منسوبا إلى الفكر العربي الحداثي بين مزدوجين، تنبيها للقارئ على أن هذا التنوير مطعونٌ في تنويريته، وأن علاقته بالتنوير هي علاقة ادعاء لا تحقق. وسنظل نرمز بالنور إلى من اسمه النور، ومن هو مصدر النور، وإلى الوحي الذي صدر عن النورِ فهو، بلا شك، نورٌ من النور. فيكون مضمون عنوان هذا المقال أن أدعياء التنوير من المفكرين العرب المعاصرين اتخذوا من «التاريخانية» أو خطة «الأرخنة» مدخلا للتشويش على نور الله الذي هو وحيُه متجسدا في آخر الكتب المنزلة، وهو القرآن الكريم.
لم يعد في وسع المفكر العربي، وهو يدرج بين أبناء أمة مسلمة، ويستهدفهم بخطابه، أن يُصادِمهم بالتشكيك في صحة نسبة كتابهم المقدس إلى الله، أو نسبة ما يقوله الله إلى الحق والعدل والكمال؛ لأن ذلك سيقدمه في صورة العدو للدين، المتمرد على الله، الخارج عن الملة، الطاعن في ما أجمعت الأمة على تعظيمه وتقديسه؛ وهي أكبر مقدمة لبوار خطابه.
لذلك، يعمد إلى خطة ماكرة، وحيلة ساحرة، تنطلي على كثير من القراء والباحثين، وهي ما يسمونه «التاريخانية»، التي تعني عندهم، وعند أساتذتهم من الغربيين، خضوع الظواهر الفكرية والاجتماعية لأثر التاريخ البشري فيها، وضرورة أن يؤخذ هذا الأثر بعين النظر في دراسة الظواهر وتقييم التجارب وتفسير التاريخ وتحليل النصوص وتأويل الخطاب وما إلى ذلك.
والنظرية من حيث المبدأ سليمة إلى حد؛ فللتاريخ أثر، وللتطور الذي تحدثه حركة التاريخ في الأفكار والأوضاع والأذواق والأهداف والقيم والوسائل سلطةٌ ينبغي أن تؤخذ بعين النظر؛ ولكن القضية ليست هنا، وإنما هي في توسيع رقعة هذا الأثر ليمتدَّ إلى خالق الزمان والمكان، والتاريخ والأثر، والبشر والحجر: إلى من يوجه حركة الكون كيف يشاء، ومن يخلق الأسباب والنواميس فيلتزمها إن شاء ويخرقها إذا شاء، ومن يعلم خبر ما كان وما هو كائن وما سيكون، ولا يجري عليه ما يجري على البشر من أثر التاريخ وقانون الزمان والمكان.
لقد صار يُنظَرُ إلى كلام الله متجسدا في آخر كتبه «القرآن الكريم» كما لو أنه من جنس كل كلام يؤثِّر فيه التاريخ ويؤثر هو في التاريخ، أو –على حد عبارة نصر حامد أبو زيد- يتأثر بالثقافة ثم يؤثر فيها ! لقد صار يقال ذلك، والله! صار يدوّن في الكتب، ويتسكع في الأطاريح، ويُلقى في النوادي، ويُدرَّس –أحيانا- للطلبة المسلمين: يقال لهم: إن القرآن خطاب، والخطاب له سياقٌ تاريخي لوّنَ مضامينَه ودلالاتِه، وأثّر في قيمه وتشريعاته، وعبّرَ عن مرحلة من تاريخ البشرية لا يعدوها إلى غيرها؛ وما كان يصلح للبداوة لم يعد يصلح للحضارة، وما كان مناسبا للحياة البسيطة لم يعد مناسبا للحياة المركبة، وما كان يُفهَم على أنه كذا وكذا بإجماع الفقهاء والمفسرين ينبغي اليوم أن يؤوَّل عسفا وقهرا ليقول معنى يناسب هذا العصر الذي تصنع أوضاعَه وقيمَه قوى القهر والظلم والجبروت!
القائلون بهذه التاريخانية كثيرون، من كبار الباحثين ومن أتباعهم الصغار المساكين. وهي تقع من القراءات الحداثية أو المعاصرة للقرآن الكريم في الصميم. فمن باب التاريخانية دخلت على قلوب كثير من الكتاب المسلمين جرأة عجيبة على الله: يُعاملونه كما لو أنه بشرٌ يعلمون حاضرهم ويجهلون مستقبلهم. ويعاملون خطابه كما لو أنه خطاب بشر: يتأثر بالسياق ثم يؤثر فيه. ويقتحمون حصون تأويله بلا علم ولا وقار ولا خشية ولا هيبة، يحرّفون الكلم عن مواضعها، واللغة عن أصولها، والأحكام عن مقاصدها.. ويخبطون في الأمر خبط عشواء، وإن كان خبطا يُقصَد به إضلال أهل الأرض عن نور السماء.