الذكــــاء الاصطنــاعـــي والطبقــيــة الــذكــائـيــــة
د. كمال محمد /
يعد الذكاء الاصطناعي Artificial intelligence على رأس اهتمامات الدول المتقدمة لما له من مزايا يصعب حصرها في مقال كهذا. فالذكاء الاصطناعي مجال جد حيوي من مجالات علوم الحاسوب. إذ يُعنى بإنشاء وتصميم أنظمة وأجهزة وآلات ذكية من شأنها تحقيق وظائف ذكية لا يقوم بها إلا البشر حيث يفوق أداؤها، في كثير من الأحيان، أداء البشر في الدقة والسرعة. وإذ يُعرّف الذكاء البشري (Human intelligence) بأنه المقدرة على إيجاد الحلول لمشكلات تعرض للإنسان في بيئته المتغيرة بمهارة وفعالية وذالك عن طريق معالجة المعلومة في إطار الخبرة المكتسبة. وما الذكاء الاصطناعي في نهاية المطاف إلا محاولة لمحاكاة سلوك البشر عن طريق خوارزمياتAlgorithms تعتمد على الرياضيات من منطق رياضي وجبر خطي، وأنظمة الخبرة Expert systems ، ومعالجة اللغة NLP، والرؤية الذكية Artificial vision، ومعالجة الإشارة والصورة. ويعد التعلم الآلي Machine learning من أهم فروع الذكاء الاصطناعي إذ عن طريقه يمكن تعليم آلة باستعمال معطيات وخِبرات سابقة ويعد التعلّم العميق Deep learning من بين أهم ما توصل إليه الذكاء الاصطناعي الحديث في مجال التعلّم الآلي.
فلنأخذ مثالا على أنظمة الذكاء الاصطناعي: السيارة ذاتية القيادة. هذه سيارة ذكية لأنه يمكنها أن توصلك إلى وجهتك دون تدخل من البشر! فما عليك إلا التكلّم معها عن الوجهة، فتفهمك بعد معالجة اللغة، بل ويمكنها طرح أسئلة إضافية كي تأخذها في الحسبان. فتنطلق بمهارة ودقة عالية مستعملة مصورات أمامية وخلفية تمكّنها من رؤية البيئة المتغيرة ومجسات متعددة لتحسس المتغيرات البيئية. هذه سيارة لا يمكن أن تصطدم بسيارة أخرى أوبإنسان أوبحيوان فهي تعرف كل شيئ يتحرك على الطريق باستعمال خوارزميات الرؤية الذكية التي تعتمد بدورها على معالجة الصور. فهي تحترم إشارات المرور وممر المشاة وتجس الطريق أهومبلل أم جاف. بالإضافة إلى إحاطتها بالسيارة نفسها من مراقبة حالة المحرك كحرارته ومستوى الزيت به وحالة العجلات. فهذا سلوك (القيادة الذاتية) لا يقدر عليه إلا البشر ومن ثم، كل آلة تحاكي سلوك البشر فهي ذكية ذكاء اصطناعيا كنظام ترجمة اللغات على هاتفك المحمول الذكي. وقد تستغرب أن هناك مصانع ذاتية فارغة كليا من البشر تقوم بصناعة السيارات حيث يأتي صاحب المصنع ليجد 40 سيارة جديدة مصطفة كل مساء من دون تدخل أي بشر! فقط رجال آليون لا يتضاحكون فيما بينهم! وهنا نرى قوة الذكاء الاصطناعي. وإن تطبيقاته لا تنحصر في الصناعة والحروب والطب والاقتصاد والطاقة والحياة الاجتماعية كالمدن والمنازل الذكية والثلاجة والتلفاز والساعة الذكية ولا في علوم الإنسان مستقبلا.
ولمّا كان لهذا الذكاء الاصطناعي أثر كبير على حياة البشر، نشهد عدة دراسات معمقة تبحث في مدى وكيفية تأثيره على سلوك البشر وحياتهم الاجتماعية وخاصة ما تعلق بذكاء البشر أنفسهم. أيمكن للذكاء الاصطناعي الذي هوحصيلة جهود ذكاء البشر أن يؤثر على ذكائهم هم أنفسهم؟ فخطر الذكاء الاصطناعي على البشر يكمن في تغيير نمط حياة وسلوك البشر وذكائهم البيولوجي وليس الخطر من أنّ الآلة الذكية يمكنها أن تتحكم يوما ما في البشر كما تُصوّره بعض أفلام الخيال. فهذا محال إذ يمكن جعل الآلة الذكية هامدة بكبسة زر واحدة: زر قطع الطاقة.
إنّ العقل الذي لا يفكر يتبلّد، وإنّ العضلات التي لا تعمل تخمل، وإنّ الإنسان الذي لا يتعرض للمحن والتجارب لا يتعلّم. فذكاء الإنسان يتطور مع التجارب ويتنقّح بنتاجات سلوكه اليومي إذ يقيس نتائج سلوكه وأفعاله باستمرار لدى محاولته تعقب المشاكل وبالتالي يُغيّر من السلوك والفعل لتصبح مخرجاتهما أحسن وهكذا ينمي ذكاءه. ليس هناك أدنى شك من أنّ الانتشار الواسع للذكاء الاصطناعي في المجتمعات البشرية بعد غزوها سيقلّص من مستوى تدخل البشر سواء ميكانيكيا أوذهنيا. حينئذ لن يعيش الإنسان تجارب تمكّنه من التفكير لأنّ كل المشاكل أوقلْ أكثر المشاكل التي كان لابد أنّ يتعرّض لها على مدى عمره قد حُلّت، فيتبلّد عقله على مرور السنين وهومخدوم من طرف الذكاء الاصطناعي! ستكون أقصى تدخلاته ميكانيكية بتزويد أنظمة وآلات الذكاء الاصطناعي بالطاقة كحرصه على شحن هاتفه الذكي بالكهرباء.
إنّ ما نخشاه هوأن تصبح لدينا ، على مرّ السنين، مجتمعات مستهلكة للذكاء الاصطناعي غبية غاية ذكائها أن تفهم كيف تعمل الآلات الذكية بطريقة ميكانيكية بليدة ومجتمعات جد ذكية متحكّمة في الذكاء الاصطناعي إلى درجة معرفة خصوصيات البشر الأغبياء بكل تفاصيلها عن طريق مِشباك الأشياء Internet of things الذي يعملون على تطويره ليصبح متاحا لكل البشر كما أتيح المِشباك لكل البشر لنفس الغاية: تحكم طبقة البشر الأذكياء في طبقة البشر الأغبياء وهذا ما نسميه بالطبقية الذكائية Intelligence stratification. هذه الطبقية في الذكاء ستدوم كما تدوم الطبقية الاجتماعية لاستحكام الأنظمة الرأسمالية، وبرامج المدارس التربوية والأدب والفن الموجهين و نمطية الإعلام. إنّ استمرار الطبقية الذكائية، إذا استفحلت سيكون أسهل من استمرار الطبقية الاجتماعية، ذلك بأن الغباء لا يمكنه أن يرى الذكاء بالطبيعة، ومن ثم، فإن الطبقة الغبية هي التي ستحافظ على طبقة الأذكياء وهذا قمة الذكاء.
وعليه وجب على كل المجتمعات البشرية التحكّم في الذكاء الاصطناعي وتطويره كي لا يخضع إنسان لإنسان وتصبح غاية الأول الكبس على الأزرار فتمتلئ بنوك الأغنياء فيزدادون ذكاءا. إذا كان على الذكاء الاصطناعي الانتشار، فلابد أن ينتشر في كل البشرية بنفس الزخم حتى يتنمى الذكاء البشري عن طريق المنافسة وتصبح مشاكل الذكاء الاصطناعي في حد ذاتها مُحرّكة ومُحفزة ومُطوّرة للذكاء البشري فلا يتبلّد. أما إذا استمر الذكاء الاصطناعي مُستقطَبا بين دول بعينها فسوف تؤول البشرية حتما إلى أخطر طبقية ستعرفها البشرية لا قدّر الله، إنّها الطبقية الذكائية التي ستحمل بذور إستمرارها في ذاتها إذ لا يرى الغبي أبدا الذكي ،كما يرى الفقير الغني بوضوح عند الطبقية الاجتماعية.