في ظــــلال السنـــة النبويـــة الشريفـــة / شـــروط ضروريـــة لتــذوق الحــــلاوة الإيمانيـــة(3)

أ.د/ مسعود فلوسي/
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلَاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ حَلَاوَةَ الإيمَانِ: أنْ يَكونَ اللَّهُ ورَسولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا سِوَاهُمَا، وأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ، وأَنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ في الكُفْرِ كما يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ».
المؤمن محب لإخوانه المؤمنين
الخصلة الثانية الضرورية لتذوق الحلاوة الإيمانية: «أن يحب المرء لا يحبه إلا الله».
فالمؤمن عندما يحب مؤمنا آخر، فهو يحبه لله، ليس لمصلحة ولا لمنفعة بينهما، وإذا أبغض شخصا آخر فهو يبغضه لأنه يعصي الله أو لأنه يفعل فعلا لا يرضاه الله عز وجل، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ: أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ» [رواه أحمد]، وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: «من أحب في الله وأبغض في الله وأعطى لله ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان» [رواه أبو داود].
المؤمن يحب أخاه المؤمن لأنه مؤمن وفقط، ولا يُتصور من المؤمن ألا يحب المؤمنين، لأن هذا أيضا شرط في صدق الإيمان، فالرابطة التي تربط بين المؤمنين هي الإيمان، وهذه الرابطة جعلها الله عز وجل أقوى الروابط وأعظم الروابط وأوثق الروابط، لأنها الرابطة الدائمة والرابطة الجامعة بين المؤمنين، ليس في الدنيا فقط وإنما في الآخرة أيضا، فهي الرابطة التي لا تنقطع.
قد يفترق المؤمنان وقد يتباعدان وقد يطول الزمان على فراقهما لأسباب، ولكن تبقى المشاعر قائمة، مشاعر الحب على الإيمان، لأن كلا منهما يحب الله عز وجل ويحب رسوله صلى الله عليه وسلم، فكل واحد منهما يحب الآخر لأنه يحب الله وسوله ويحب الإسلام ويؤمن به ويطبق أحكامه ويدعو إليه ويرجو أن يؤمن جميع الناس به.
الإيمان رابطة عظيمة، ولذلك لا يُتصور أن يكون الإنسان مؤمنا حقا ولا يحب إخوانه المؤمنين، أو يُبغض إخوانه المؤمنين، أين الإيمان إذن؟
الإيمان الصحيح هو الذي يجعل المؤمن يحب المؤمنين جميعا، لأنهم يحبون الله عز وجل ويطيعونه، هذا فقط وهو أهم شيء وأعظم شيء، أما أمور الدنيا فمتغيرة ومتبدلة، قد تجمعك تجارة مع شخص أو يجمعك عمل ما مع آخر، أو تجمعك مصلحة منها المصالح مع غيرك، لكن هذه كلها ليست ثابتة.
العلاقة بين المؤمنين ليست علاقة قائمة على المتغيرات، هي علاقة قائمة على الثوابت، لأن المتغيرات كثيرا ما كانت سببا في مصائب.
لذلك، لا ينبغي للإنسان أن يربط مودته ومشاعره بالمتغيرات، وإنما يجب أن يربطها بالثوابت، والثابت الأعظم هو ثابت الإيمان، لأنه وصف ليس للشخص، وإنما لسلوك هذا الشخص ولوجوده في الحياة.
المتحابون في الله يحبهم الله ويكرمهم
وصف الإيمان إذن، وصف يستحق به المؤمن أن يكون محبوبا لإخوانه، وإذا أحب إخوانه وأحبوه حبا خالصا لله وليس وراءه قصد دنيوي أحبهم الله عز وجل، روى أبو هريرة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «أنَّ رَجُلًا زارَ أخًا له في قَرْيَةٍ أُخْرَى، فأرْصَدَ اللَّهُ له، علَى مَدْرَجَتِهِ، مَلَكًا فَلَمَّا أتَى عليه، قالَ: أيْنَ تُرِيدُ؟ قالَ: أُرِيدُ أخًا لي في هذِه القَرْيَةِ، قالَ: هلْ لكَ عليه مِن نِعْمَةٍ تَرُبُّها؟ قالَ: لا، غيرَ أنِّي أحْبَبْتُهُ في اللهِ عزَّ وجلَّ، قالَ: فإنِّي رَسولُ اللهِ إلَيْكَ، بأنَّ اللَّهَ قدْ أحَبَّكَ كما أحْبَبْتَهُ فِيهِ» [أخرجه الترمذي].
ولذلك فإن من بين من يظلهم الله عز وجل في ظله يوم لا يظل إلا ظله؛ وهو يوم القيامة، هم المتحابون فيه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: قالَ رسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: إِمامٌ عادِلٌ، وشابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّه تَعالى، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌفي المَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه: اجتَمَعا عَلَيهِ، وتَفَرَّقَا عَلَيهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ، وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخافُ اللَّه، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فأَخْفَاها، حتَّى لا تَعْلَمَ شِمالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» [متفقٌ عَلَيْهِ].
بل إن إكرام الله عز وجل يوم القيامة لعباده المتحابين فيه ليزيد ويتعدد ويتنوع حتى يغبطهم عليه النبيون والشهداء.
عن أبي مالك الأشعري قال: … إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قضى صلاته أقبل علينا بوجهه فقال: «يا أيها الناس، اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله عز وجل عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم، وقربهم من الله». فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس، وألوى بيده إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ناس من المؤمنين ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم [من الله]؟ انعتهم لنا، حلهم لنا – يعني صفهم لنا – شكلهم لنا، فسُر وجه النبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الأعرابي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هم ناس من أفناء الناس، ونوازع القبائل، لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور، فيجلسهم عليها، فيجعل وجوههم نورا، وثيابهم نورا، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» [رواه أحمد].
وسائل إشاعة المحبة بين المؤمنين
وحتى تنتشر المودة بين المؤمنين وتتوثق عراها، فعليهم أن يتخذوا الأسباب لذلك ويحرصوا عليها، ومن ذلك؛ تبادل التحية بالسلام بينهم، أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» [الترمذي].
فإفشاء السلام من وسائل نشر المحبة بين المؤمنين، فأنت ربما لا تعرف شخصا ما ولم تتعامل معه، ولكنك تحبه لأنه يلقي عليك السلام دائما. لماذا في واقعنا اليوم لا توجد مودة بين المؤمنين؟ لأنه لا أحد يلقي السلام على أحد، وقد تجد من يلقي السلام على غيره فلا يرد عليه، والبعض إذا سلمت عليه لا يرد السلام بمثله وإنما بلفظ آخر، كأن يقول: بخير، هذه ليست تحية، التحية هي: السلام عليكم، وردها هو: وعليكم السلام، أما (بخير) هذه فليست تحية وليس فيها أجر عند الله إطلاقا، أما التحايا الأخرى المستوردة من الكفار، فهذه ليست من تحية الإسلام في شيء.
ومن وسائل المحبة بين المؤمنين كذلك؛ الاجتماع على الصلاة، صلاة الجماعة، فالمفروض كل مؤمن يحرص على حضور صلاة الجماعة حتى يشعر بدفء المودة والمحبة بينه وبين إخوانه.
ومن ذلك أن يخبر الإنسان المؤمن إخوانه المؤمنين بمحبته لهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أحبَّ أحدُكمْ صاحِبَه فلْيأْتِه في مَنزِلِه، فلْيُخبِرْه أنَّهُ يُحِبُّه للهِ» [رواه أحمد]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أحبَّ أحدُكم أخاه في اللهِ فلْيُعلِمْهُ، فإنَّهُ أبْقَى في الأُلْفةِ، وأثْبَتُ في المَوَدَّةِ» (صحيح الجامع؛ برقم: [280]، حديث حسن).
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي لَأُحِبُّ هَذَا. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْلَمْتَهُ؟»، قَالَ: لَا. قَالَ: «أَعْلِمْهُ». قَالَ: فَلَحِقَهُ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ. فَقَالَ: أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ. [رواه أبو داود]. فإذا كنت تحب إنسانا فأخبره بمحبتك وأظهر له مودتك، حتى يبادلك نفس المودة والمحبة، وبذلك تشيع المحبة بين المؤمنين، وتشيع الأخوة، ويشيع التراحم، ويشيع التعاون، ويشيع الشعور المتبادل بين الناس.
ومن هذه الوسائل؛ قيام المؤمنين لبعضهم البعض بحقوق الأخوة الإسلامية، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْهُ، وإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَسَمِّتْهُ، وإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
وعن أَبي عُمارة الْبراءِ بنِ عازبٍ رضي اللَّه عنهما قَالَ: «أَمرنا رسولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسبْعٍ، ونهانا عن سبعٍ: أَمرنَا بِعِيادة الْمرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجنازةِ، وتَشْمِيتِ الْعاطِس، وَإِبْرارِ الْمُقْسِمِ، ونَصْرِ المَظْلُومِ، وَإِجابَةِ الدَّاعِي، وإِفْشاءِ السَّلامِ. وَنَهانَا عَنْ خواتِيمَ – أَوْ: تَختُّمٍ بالذَّهبِ – وَعنْ شُرْبٍ بالفضَّةِ، وعَنِ المَياثِرِ الحُمْرِ، وَعَنِ الْقَسِّيِّ، وَعَنْ لُبْسِ الحَرِيرِ وَالإِسْتَبْرَقِ وَالدِّيبَاجِ» [مُتَّفَقٌ عليه].
ومنها كذلك؛ التزاور والتباذل والتجالس في الله وابتغاء مرضاة الله، عن مُعَاذ بْن جَبَلٍ رضي الله عنه، قَالَ: أإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «قالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَجَبَتْ مَحبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فيَّ، والمُتَجالِسِينَ فيَّ، وَالمُتَزَاوِرِينَ فيَّ، وَالمُتَباذِلِينَ فيَّ» [رواه مالِكٌ في الموطأ].
ترك ما يدعو إلى التباغض بين المؤمنين
ومن وسائل ثبات المحبة وتوثقها بين المؤمنين؛ أن يُعرضوا عن كل ما من شأنه أن يفسد المودة بينهم ويؤدي إلى تسرب البغضاء والكراهية – تجاه بعضهم البعض – إلى نفوسهم، مثل السخرية والغيبة والنميمة والحسد وسوء الظن والتحسس والتجسس. قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) [الحجرات: 12-11]. وعن الزُّبير بن العوَّام رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبَغْضَاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشِّعر، ولكن تحلق الدِّين» [رواه الترمذي وأحمد]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إيَّاكم والظَّنَّ؛ فإنَّ الظَّنَّ أكذب الحديث، ولا تحسَّسوا، ولا تجسَّسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا» [متفق عليه]. وعن أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: «سيصيب أمَّتي داء الأمم، قالوا: يا نبيَّ الله، وما داء الأمم؟ قال: الأشَرُ والبَطَرُ، والتَّكاثر والتشاحن في الدُّنيا، والتَّباغض، والتَّحاسد حتى يكون البغي ثمَّ الهرج» [رواه الطبراني والحاكم].
إن الدين ليس كلاما مجردا أو دعاوى فارغة، ليس دعاوى، ليس مجرد عواطف في القلب، إنه سلوك واقعي وممارسة عملية.
فإذا كنت تحب الله فيجب أن يظهر حبك له في الواقع، وإذا كنت تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فينبغي أن يظهر حبك له في الواقع، وإذا كنت تحب إخوانك المؤمنين، عليك أن تظهر هذا الحب في الواقع.
يتبع