ليتفكروا

عوائــــق النهضــــة: النزعـــة التجــزيـئــيـــة

د. بدران بن الحسن *

مما ميز الفكر الإسلامي في عصور ازدهاره حضور الرؤية الكلية التركيبية، واستحضار روح القانون والسننية في الفكر والفعل والحركة، وذلك –كما أشرنا في مقالات سابقة- بفعل المناخ العقلي الذي أسس له القرآن الكريم، وربى عليه النبي صلى الله عليه وسلم أمته، بأن تفكر تفكيرا سننياً لا يكتفي بالظواهر الجزئية، بل يَعبُر إلى القانون الناظم لها.
ولكن من طبيعة الفكر الإنساني أنه يفقد حاسة القانون، يتوه عن الكليات، ويغرق في النظرة التجزيئية، عندما يكون في مرحلة لم يدخل بعد في تركيب مبدع للانطلاق في حضارة، وكذلك في حالة خروجه من مرحلة الحضارة إلى مرحلة ما بعد الحضارة، بحيث يتوقف عن الإبداع والقدرة على التعميم وإدراك الكليات والإحساس بالقانون، فيتوه وسط القضايا والأفكار والمشاريع الجزئية، كأنه بين ذرات منفصلة لا رابط بينها.
ولعل من عوائق جهود أمتنا في تحقيق نهضتها الحضارية المعاصرة، تلك النزعة التجزيئية (الذرية) التي غلبت على كثير من جهود وأفكار ومشاريع وأطروحات الساعين إلى تحقيق النهضة، من مختلف الاتجاهات الموجودة في الأمة. وبعبارة أخرى، فإن من أسباب عدم تحقيق المشاريع النهضوية لغاياتها تلك الانطلاقة غير الموفقة التي لا تقوم على الرؤية الكلية التكاملية المؤسسة، التي لا تدرك أهمية مختلف جوانب الحياة المادية منها والمعنوية، وتأثيراتها المتبادلة فيما بينها، وإنّما تقوم على رؤية سطحية تجزئ المشكلات، وتطرحها منفصلة عن بعضها. بل قد تنشغل بجزئية صغيرة وتراهن عليها لوحدها لتحقيق أهداف النهضة، ولعل هذه النظرة التي تفصل المشكلات عن بعضها وتجزئها هي سبب ذلك الفشل المتكرر لمحاولاتنا النهضوية.
وقد نبه مالك بن نبي إلى هذا الخلل وهذا العائق في رده على المستشرق «هاملتون جب» الذي اتهم الفكر الإسلامي بأنه فكر تجزيئي بطبيعته، ورأى بن نبي أن أن «جب» خالفته الموضوعية في هذا الوصف، لأن التجزيئية ليست خاصية فطرية في الفكر العربي او الفكر الإسلامي، بل هي خاصية من خصائص العقل الإنساني عموما أو حالة من أحواله، فيها «يقصر عن بلوغ درجة معينة من التطور والنضج، أو عندما يفوتها، وبعبارة أدق يقع العقل المعمم في التطور التاريخي بين مرحلتين من مراحل (الذرية). فالفكر غالباً ما يكون ذرياً في خطواته الأولى، كما كانت الحال في أوربا قبل (ديكارت)، وكما صارت إليه الحال بعد عصر ابن خلدون في العالم الإسلامي، عندما توقف كل جهد عقلي» (بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص 11).
فهي حالة أو وضعية أو صفة لها أسبابها، وليست لصيقة بفكر معين أو بقوم معينين. والتجزيئية بهذا، تعني عدم القدرة على إدراك الأشياء والأحداث في صورة كلية شاملة، تربط بينها صلات. لذا يتم تناولها على هذا الأساس، باعتبارها وحدات مجزأة ومنفصلة عن بعضها البعض، بعيداً عن وجود أية علاقات تجمعها. وهو الأمر الذي يصبح معه إصدار أي حكم صحيح على الواقع مستحيلاً، ومن هنا يتم تناول أي مشكلة كأجزاء مبعثرة (تبعاً لطوارئها العاجلة على الحياة اليومية ومن دون نظر شامل يحدد منذ البداية الهدف والمرحلة والتوقيت والوسائل).. وتكون النتائج والحلول المقدمة غير فعالة، فيضيع الجهد والوقت والمال، وتتراكم على إثر ذلك المشكلات وتتعقد أكثر، ويدخل المجتمع أكثر في تيه التخلف (نورة السعد، فقدان الفعالية، 2008).
وهــذا ما انتقده بن نبي في جهود الاصلاح والتجديد في العالم الإسلامي، الذي تاهت به الجزئيات، وأدى به تجزئة المشكلات إلى أن يعالج أعراض المرض دون البحث في سببه الحقيقي، ودون تشخيص دقيق، للحصول على تصور علمي لجوهر المشكلات، فقضى العالم الإسلامي دهرًا طويلاً يخوض معارك وهمية ولا يزال.
ويمكننا أن ننظر إلى ثمرات النزعة التجزيئية في واقعنا اليوم؛ في مستوى الافراد والجماعات والمجتمعات والدول. ففي المستوى الفردي، لا يكاد يخرج الواحد منا من الجزئيات، بسبب غياب رؤية تكاملية، وغياب التعامل المنهجي العلمي الدقيقي مع قضايانا، مما يجعلنا لا نكاد ننجز شيئا ذا بال ينفعنا وينفع من حولنا. والأمر نفسه يقال عن المستوى الجماعي (الأسرة والجماعة والمجتمع)، وما تعانيه الأسرة والجماعات الإصلاحية والاحزاب العاملة لنهضة أمتنا. إذ نراها تتخبط في دائرة من ردود الأفعال، والأفعال «التنافرية الحدّية» -كما يعبر عن ذلك الأستاذ الطيب برغوث- لا تكاد تنجز شيئا إلا وترجع من حيث بدأت، لغياب النظرة الكلية، والتصور الكلي لما ينبغي فعله، والإمكانات اللازمة، والتوجه المطلوب، والفترة الزمنية التي نحتاجها…الخ. أما في مستوى الدول، فالأمر أيضا واضح بشكل كبير، لمن نظر نظرة نقدية، فمعظم دولنا تقوم بخطط تنمية بلا مشروع مجتمع واضح المعالم، ذي أسس راسخة في مرجعيتنا الحضارية، ولا مرتبطة بحاجات عصرنا، فترى المشاريع تنهار، أو يظهر عجزها قبل أن تحقق غايتها. بسبب عدم قيامها على تصور واضح قائم على سنن الله في الاجتماع والعمران، ونظرة تركيبية تجمع القضايا الجزئية مع بعضها.
وحتى لا نقع في الخلط بين النزعة التجزيئية وبين معالجة المشكلات الجزئية في إطار كلي ينظمها، ينبغي التنبيه إلى أن التجزيئية تؤدي إلى خلل في الرؤية، واختزال في التعامل مع المشكلات، وقصور في التناول، مما يؤدي إلى التفكيك وعدم القدرة على ربط المشكلات ببعضها، فتبقى المشكلات معزولة عن بعضها في إطار التاريخ ولا رابط بينها (عمار طالبي، 1991، ص4)، فهي فقدان رؤية كلية تركيبية. بينما تناول الجزئيات ومعالجتها ضمن إطار كلي يضبط التصور ويوجه العمل هو المطلوب، لأن ذلك هو السننية والتكامل. فهناك فرق بين تجزيء المشكلة بطريقة تجعلها أجزاء متناثرة لا رابط بينها، وبين تحليل المشكلة إلى عناصرها الأولية لإعطاء بعد منهجي وعملي في البحث عن حلول ممكنة لها في إطار من تلك النظرة الكلية التركيبية.
*مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية/ جامعة قطر

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com