حديث والد النبي صلى الله عليه وسلم في الصناعة الحديثية(1)/محمد عبد النبي
كثير من مسائل التراث تتجاذبها الأدلة ولا نجد لها حسما، إلا ما يمكن وصفه برجحان دليلٍ تارة، أو شهرة قائلٍ تارة أخرى، ومن ينتظر القطع في هذه القضايا فقد يطول به الانتظار، ومع غلبة الأهواء أو الجهل- في العصر الحاضر- قد يرى بعضنا وجوب الحسم المؤدي لليقين -وما يقتضيه من اصطفاف- فيما حقه ألا يُتجاوز به درجة الظن والرجحان، ما دام للنظر فيه مجال، وبخاصة في مسائل تتعلّق بمقام النبوّة لدى فريق، وما ينبغي مراعاته فيه، أو لها صلة بما تقتضيه القواعد والضوابط من صرامة، لا ينبغي الإخلال بها، ولو بدا أنها قد تنال من هيبة أو مقام.
أخرج الإمام مسلم (1/191) عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفان عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس “أن رجلا قال: يا رسول الله، أين أبي؟ قال: في النار، فلما قفّى دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار”.
وأخرجه أبو داوود (7/100-101) من طريق حماد عن ثابت عن أنس بنفس لفظ مسلم.
وأخرجه الإمام أحمد (19/229) من نفس طريق حماد، وفيه: “قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أين أبي؟ قال: في النار، قال: فلما رأى ما في وجهه قال: إن أبي وأباك في النار”.
وأخرج ابن ماجه (1/501) عن سالم عن أبيه قال: “جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن أبي كان يصل الرحم، وكان وكان، فأين هو؟ قال: في النار، قال: فكأنه وجد من ذلك، فقال: يا رسول الله فأين أبوك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حيثما مررتَ بقبر مشرك فبشره بالنار، قال: فأسلم الأعرابي بعد، وقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبا، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار”.
كثير من الناس ما كانوا على علم بوجود هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل عقود، فلما جاءت الصحوة العلمية باتجاهاتها المختلفة خرجت كثير من الأحاديث إلى العلن، ومنها هذا الحديث الذي معنا اليوم، وهو في صحيح مسلم، ويكفي أن يُذكر كتابه حتى يُسلِّم الناس وطلبة العلم بأحاديثه كلها! وهو موقف لا غبار عليه من حيث العموم، إلا أن له استثناءات كما سنرى، والذي أثار اللغط حول هذا الحديث أنّ هناك من يعزّ عليهم أن يكون والد النبي صلى الله عليه وسلم في النار، وهو من أهل الفترة، ويردّ مخالفوهم بأن الحديث في ذلك في صحيح مسلم، وليس لأحد أن يشكك في أحاديثه، أو أن يذهب إلى غير ما ذهبت إليه! والذي يدفعني للكتابة في هذا الأمر الآن هو الإصرار العجيب لدى بعض المتكلمين على التذكير بمصير والد الرسول صلى الله عليه وسلم، والإشارة إلى إمكان وجود طريق ثالث في هذه القضية، من ثمّ التخفيف من النظرة الحدّية فيها لكلا الطرفين، ونصحُ الطرف الأول بأن مسائل هذا العلم الدقيق لا تُتناول بمجرد العاطفة، ونصح الطرف الثاني بأنّ القطع بما في حديث مسلم قد لا يُسلّم لهم على الإطلاق الذي يبتغونه.
وقبل الدخول في تفاصيل هذا الخبر أودّ أن أنبّه إلى أمرين اثنين:
فأما الأمر الأول: أن هيبة الصحيحين -والتلقي بالقبول للكتابين من قِبل الأمة- إنما قُرِّرا من قبل المتأخرين، وبعد عصر الرواية، وهو أمر عام يشمل الكتابين من حيث العموم، وتُستثنى الأحاديث التي انتقدها بعض الأئمة من القطع الذي حازه الكتابان، قال ابن الصلاح في مقدمته (28-29): “هذه أمهات أقسامه (أي الصحيح) وأعلاها الأول، وهو الذي يقول فيه أهل الحديث كثيرا: “صحيح متفق عليه” يطلقون ذلك ويَعنون به اتفاق البخاري ومسلم، لا اتفاق الأمة عليه، لكن اتفاق الأمة عليه لازم من ذلك وحاصل معه، لاتفاق الأمة على تلقي ما اتفقا عليه بالقبول، وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته، والعلم اليقيني النظري واقع به، خلافا لقول من نفى ذلك، محتجا بأنه لا يفيد في أصله إلا الظن، وإنما تلقته الأمة بالقبول لأنه يجب عليهم العمل بالظن، والظن قد يخطئ…” وأضاف: “… وهذه نكتة نفيسة نافعة، ومن فوائدها: القول بأن ما انفرد به البخاري أو مسلم مندرج في قبيل ما يُقطع بصحته، لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول، على الوجه الذي فصلناه من حالهما فيما سبق، سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ، كالدار قطني وغيره، وهي معروفة عند أهل هذا الشأن”.
ولذلك نرى أصحاب المصنفات -بعد عصر الرواية- وكذا الشراح -يَسوقون الأحاديث بحسب رواياتهم لها بالأسانيد -نقدا ومقارنة لها مع غيرها- وليس على أساس ورودها في المصنفات، كما نفعل نحن اليوم، وبناء على ذلك قد يرجِّحون روايةً وردت في مصنف أحد الأئمة على روايةٍ للإمام مسلم.
وأما الأمر الثاني: أن الإمام مسلما تلميذٌ للإمام البخاري، وقد ورد عنه التسليم بتفوّق شيخه عليه، وهو أمر طبيعي، ويترتّب عليه القول بأن كتاب البخاري أدقّ في الصناعة النقدية وشروط الرواية من كتاب مسلم.