شجاعــةُ فيلسوفٍ اعتقد أن الشمس لا تشرق إلا من الغرب!
أ.د. عبد الملك بومنجل
مَن مِن المنشغلين بعالم الفكر والفلسفة لا يعرف المفكر الفيلسوف زكي نجيب محمود؟ اسم معروف ولامع بمؤلفاته الكثيرة، وتأملاته المستمرة في سبيل نهضة عربية عزَّ الطريق إليها، وتفرّقت سبل التفكير في رسم معالمها.
مؤلفاتٌ كثيرةٌ، أجل. وتأملاتٌ مستمرةٌ، أجل؛ ولكن على هامش التنوير!
هل نتجنى على الرجل؟ معاذَ الله.. إننا لا نقول إلا بما قال هو ذاته. لا نصدرُ إلا حكما أصدرَه هو نفسه، في لحظةِ صفاء فكري واعتراف وجداني قلَّ مثيلُهُ في تاريخ الفكر العربي الحديث.
قال في كتابه «تجديد الفكر العربي»:
«بدأت بتعصب شديد لإجابة تقول إنه لا أمل في حياة فكرية معاصرة إلاّ إذا بترنا التراث بترا، وعشنا مع من يعيشون في عصرنا علما وحضارة ووجهة نظر إلى الإنسان والعالم. بل إني تمنيت عندئذ أن نأكل كما يأكلون، ونجدّ كما يجدّون ونلعب كما يلعبون ونكتب من اليسار إلى اليمين كما يكتبون، على ظن مني آنئذ أن الحضارة وحدة لا تتجزأ؛ فإما أن نقبلها من أصحابها– وأصحابها اليوم هم أبناء أوربا وأمريكا بلا نزاع- وإما أن نرفضها، وليس في الأمر خيار بحيث ننتقي جانبا ونترك جانبا كما دعا إلى ذلك الداعون إلى اعتدال. بدأت بتعصب شديد لهذه الإجابة السهلة، وربما كان دافعي الخبيء إليها هو إلمامي بشيء من ثقافة أوربا وأمريكا وجهلي بالتراث العربي جهلا كاد أن يكون تاما، والناس– كما قيل بحق- أعداء ما جهلوا».
نطقَ بهذا الاعتراف الشجاع الخطير النفيس في وقت متأخر نسبيا. وحاول بعدها أن يُصلحَ الميزان، ويفتحَ صفحةً جديدة من التعارف والتآلف مع التراث العربي والفكر الإسلامي؛ ولكن تأخرَ الوقت. ماذا يفعل سائحٌ –كما عبّرَ هو ذاته- يريد أن يستكشف مدينة بحجم باريس، ولم يبق له سوى يومين !
هو اعترافٌ يدمغ المشروع الفكري العربي الحديث برمّته بفقدان البوصلة، وفساد المنهج، وضعف الرصيد، وافتقار الأصالة، والجهل بالتراث العربي الإسلامي، وغياب الحس النقدي الذي يُقدِرُهُ على مساءلة الفكر الوافد مساءلةَ الند للند.
اعترافٌ نالَ الفيلسوفُ ثمرتَه تقديرا من أهل الإنصاف، ولكنه قدّمَ الدليلَ ناصعا على ما تورّط فيه أدعياءُ التنوير من قلة النور في منهج تفكيرهم، وبقائهم على هامش النور في نمط تلقيهم للفكر الغربي، وموقفهم من النور الإلهي، وتصورهم لجدليات العقل والنقل، والعلم والدين، والتراث والحداثة، والشهادة والغيب، والتخلف والنهوض.
لقد توهم أكثر المفكرين العرب المعاصرين أن الشمس لا تشرق الآن إلا من الغرب. وأن الفكرَ لا ينفعُ اليومَ إلا إذا كان عليه بصمةُ الغرب. وأن النهضةَ لا سبيلَ إليها إلا إذا تُوُسِّلَ إليها بالشروط نفسها التي توسل بها الغرب إلى نهضته، وعلى رأسها موقفه من الدين. وإلى الآن، ما يزال أدعياءُ التجديد والحداثة والتنوير، عاجزين عن تحرير عقولهم من خرافة العبقرية الغربية التي لا تُضاهى، والفلسفة الكونية التي لا تُناقَش؛ فهم لذلك لا يملكون غير الحركة الضيقة ضمن سياج التبعية لما هو غربي، والولاء لما هو وضعي وليس بغيبي. وقد وصف الفيلسوف طه عبد الرحمن حالَهم فأحسنَ الوصف:
«من ذا الذي بوسعه أن ينكر أن القول الفلسفي العربي لا يصوغ من الألفاظ إلا ما صاغه غيره، ولا يستعمل من الجمل إلا ما استعمله، ولا يضع من النصوص إلا ما وضعه، لا يكاد يزيد على هذا أو ذاك شيئا من إنشائه، لا من إنشاء غيره (…). أنظر كيف أن المتفلسفة العرب المعاصرين «يؤوّلون» إذا أول غيرهم، و«يحفرون» إذا حفر غيرهم و«يفككون» إذا فكك…، سواء أصاب في ذلك أم أخطأ؟ وقد كانوا، منذ زمن غير بعيد، توماويين أو وجوديين أو شخصانيين أو ماديين جدليين!».