اتجاهات

العلمـــــاء بيــــن الأمـــس واليــــوم

عبد العزيز كحيل/

علماء الدين هم منارات الهدى ومصابيح الدجى، هم كالنجوم اللامعة في السماء الصافية، بأيّهم اقتدينا اهتدينا، ومن فضل الله علينا أننا تتلمذنا في زمن التحصيل على رجال ربانيين، كل واحد منهم راسخ القدم في العلوم الشرعية، آية في الأخلاق الكريمة، كان بعضهم مزدوج اللغة، يعلك العربية علْكا ويتكلم لغة الدمقس المفتّل، لم يلقنونا المعرف فحسب بل أطعمونا المنّ والسلوى وسقونا رحيقا عجيبا فيه قبس من علمهم وأخلاقهم، فعشنا على ذلك الزاد حياتنا العلمية والعملية فازددنا من الله قربا – نظن ذلك – ونسجنا مع عباده علاقات يعلوها الصدق والمودة والإحساس النبيل، لقد أخذنا منهم العلم والقدوة الحسنة، كلامهم درر، سلوكهم استقامة ناطقة، حتى عتابهم يقطر حكمة ونفعا، ذكرني هذا بما رووه عن ابن حبان وشيخه ابن خزيمة – وهما من أساطين علم الحديث في زمانهما – أن التلميذ كان يلازم شيخه ملازمة غريبة، كان لا يكاد يفارقه، ويسجل عنه كل كلمة يقولها، وفي مرة تضايق منه الشيخ وقال له :»ابتعد عني أيها الرجل البارد»، فسجلها ابن حبان وقال :»هذا من العلم الذي يسجل»…علمونا الشغف بالعلوم الدينية والرفق بالمخالف والوسطية في كل شيء وسلامة القلب وعفة اللسان وحسن الظن بالمسلمين والصرامة في الحق والبُعد عن التقعر والتنطع وسفاسف الأمور…لم يعلمونا كل هذا تلقينا بل بالقدوة، فكان ذلك أنفع لنا وأشد التصاقا بشخصيتنا…لكن طال بنا العمر ورأينا في العلم وأهله عجبا، لقد أصبحنا نردد قول لبيد: «ذهب الذين يعاش في أكنافهم …وبقيت في خلف كجلد الجرب»، كيف لا وقد فعل الزمان فعلته وغيّبت المنايا أولئك الأعلام فخلف من بعدهم خلْف لا علم لهم ولا أخلاق ولا لغة، يضخم الواحد منهم نفسه، يصورها ويصورها أتباعه المغفلون وكأنه وحيد زمانه وفريد أوانه، يحسب أنه عارف بكل ما درج وطار وسبح في القفار والبحار، محيط بالعلوم إحاطة السوار بالمعصم، قوله هو الحق وما خلاه هو الباطل ، يخطئ العلماء المحققين والفقهاء المدققين ويزدري اجتهاداتهم بقراءة ظاهرية حرفية ساذجة لنصوص أشبعوها هم بحثا، يسميه أتباعه شيخ الإسلام في زمانه وهو لم يبرح طرح مسائل فقهية أو حديدية أو عقدية طبخت ونضجت واحترقت قبل أن تلده أمه بكثير، ولا يفتأ اجتهاده أن يكون صرير باب أو طنين ذباب…سبحان الله، لا درْك للصواب ولا أدب في الخطاب ، منفرون، معسرون، عن كلمة الحق ساكتون… كيف نرتاح إليهم – فضلا عن أن نقتدي بهم – وهم يتبعون الأهواء ويركبون العمياء ويخبطون خبط عشواء؟ لا نصاحب تلاميذهم وأتباعهم لأنهم يضيّقون الديار ويُغْلون الأسعار ولا يُستفاد من صحبتهم إلا العار والشنار…هكذا يجد الواحد من أبناء جيلي نفسه غريبا غربة صالح في ثمود، ولولا أمهات الكتب التي تركها الأكابر لمُتنا كمدا، كيف لا ونحن نكاد نختنق بين ركام هائل من الكتب التي تتحدث فقط عن «قضايا ضخمة» مثل جلسة الاستراحة وكيفية تحريك الإصبع عند التشهد وحكم لبس الساعة في اليد ووجوب طاعة ولاة الأمور ولو جاروا وظلموا وشربوا الخمر وزنوا، وقضايا ثانوية هامشية تاريخية خفيفة الوزن تُفني الأعمار من غير طائل، بل تؤخر ولا تقدم، تجعل القلوب قاسية والعقول متبلدة والجوارح هامدة سلبية…وإذا حدث «تجديد» فهو كتب بالعشرات في تجريح العلماء والطعن في الدعاة وتبديع المصلحين والتشكيك في نوايا العاملين للإسلام ورميهم بكل نقيصة، حتى غدت مفردات السلف الصالح وأهل السنة والفرقة الناجية رائجة في سوق المتطفلين على العلم، وهذه داهية أخرى جرّعتنا الغصص وأقضت مضاجع أهل الإسلام، إذ ورث الأتباع من رؤوسهم سوء الخلق والجنوح إلى الغلظة والتعالم وتزكية النفس الضعيفة علميا ودينيا…فرحم الله زمانا كان فيه الطلبة ينهلون من معين الأخلاق الرفيعة والأدب العالي قبل الاستزادة من المعارف والتبحر في العلوم، وإذا ضاعت أخلاق المبتدئ ضلّ الطريق وتاه مع التائهين وهو يحسب أنه على شيء وأنه يحسن صنعا، وما له لا يتوه وهو يحارب العلماء ويطعن فيهم وينتقص منهم لهوى ورثه من شيوخه الذين جعلوا السباب والتفسيق وسوء الظن عناوين السنة النبوية…لقد ذكروا أن العارف بالله سهل بن عبد الله التستري – وهو جبل شامخ يؤتى ولا يأتي – زار الإمام أبا داود في بغداد، أي مسيرة أيام ذات عدد، ولما وصل ورحب به المحدث الكبير في دهشة وتعجّب قال له «جئتك في حاجة»، فقال: «نعم»، فقال «لا، حتى تقول لي قضيتها لك»، فقالها أبو داود فقال سهل «أخرج لسانك لأقبّل هذا الذي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» … الله الله ثم الله الله…هذا هو العلم، وهذه هي السنة، وهذه أخلاق المتيّمين بالحديث النبوي…فما لنا نرى نماذج مشوَّهة تتنكب الطريق، دأبها وديدنها مخالفة الهدي النبوي الكريم الذي تزعم اقتفاء أثره؟ غلمان حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يسخرون من الأئمة الأربعة وابن حجر والغزالي والنووي وحسن البنا وسيد قطب وشيوخ جمعية العلماء والقرضاوي والغزالي، ويقولون «هم رجال ونحن رجال» !!! ألا يعلمون أن الرجال من طلبة العلم هم من نوع ذلك الطالب في حلقة الإمام مالك الذي رأى رجلا ينقل للإمام كلام ابن اسحق – صاحب السيرة – يقول فيه «هاتوا لي حديث مالك فإني خبير بعيوبه»، فيغضب الإمام ويقول «هؤلاء الدجاجلة»، فيقول الطالب النبيه» جمع دجال هو دجاجلة؟ هذا خلاف القياس، فائدة استفدتها»…لم يدخل في سوء التفاهم بين الإماميْن وإنما أخذ فائدة علمية لعلمه أن مالكا حجة في العربية.
إن الدين رسوخ في العلم وأخلاق رفيعة وأدوات عالية الجودة للكتابة والخطابة والتبليغ.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com