مدينة القدس…مدينة فلسطينية عربية إسلامية/يوسف جمعة سلامة
تحتل مدينة القدس مكانة مميزة في نفوس العرب والمسلمين، حيث تهفو إليها النفوس، وتشد إليها الرحال من كل أنحاء المعمورة، ففيها المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، وفيها التاريخ الإسلامي العريق الذي يزرع نفسه بقوة في كل شارع من شوارعها، وكل حجر من حجارتها، وكل أثرٍ من آثارها، وقد ظهرت مكانة القدس عبر التاريخ من خلال حرص المسلمين على فتحها وذلك في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-، ثم في أيام صلاح الدين الأيوبي، كما عملوا على صيانة معالمها والمحافظة عليها.
من المعلوم أن مكانة مدينة القدس تنبع من أنها القبلة الأولى التي توجه إليها الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه الكرام-رضي الله عنهم أجمعين- منذ أن فُرضت الصلاة في ليلة الإسراء والمعراج، كما أنها منتهى الإسراء ومنطلق المعراج إلى السماء، وفيها أمّ الرسول – صلى الله عليه وسلم – إخوانه الأنبياء والمرسلين – عليهم الصلاة والسلام – في المسجد الأقصى المبارك.
المسجد الأقصى بالقدس توأم للمسجد الحرام بمكة المكرمة
لقد ربط الله سبحانه وتعالى بين المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد الأقصى بمدينة القدس في الآية الأولى التي افتتحت بها سورة الإسراء{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}(1)، وذلك حتى لا يفصل المسلم بين هذين المسجدين ولا يُفرّط في أحدهما، فإنه إذا فَرَّّط في أحدهما أوشك أن يُفرّط في الآخر، والمسجد الأقصى المبارك ثاني مسجد وضع لعبادة الله في الأرض كما ورد عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري – رضي الله عنه- قال: (قُلْتُ يَا رَسُولَ الله: أَيُّ مَسْجد وُضعَ في الأرْضِ أوَّلاً؟ قَالَ: اَلْمسجِدُ الْحَرَامُ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: اَلْمَسجِدُ الأقْصَى، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ، فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيِه)(2)، كما أنه أحد المساجد الثلاثة التي لا تُشد الرحال إلا إليها كما جاء في الحديث أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: (لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ- وَمَسْجِدِ الأَقْصَى) (3)، وهي أرض المحشر والمنشر لحديث ميمونة – رضي الله عنها- قالت: (يَا رَسُوَلَ اللهِ، أَفْتِناَ فِي بَيْتِ الْمَقِدْسِ، قَالَ:” أَرْضُ الْمَحْشَر ِوالْمَنْشَر)(4).
قرار ترامب كــ “وعد بلفور”
لقد تابع شعبنا الفلسطيني والأمتان العربية والإسلامية قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي ونقل السفارة الأمريكية إليها، ونحن نعتبر هذا القرار بأنه قرار جائر وظالم يرفضه الشعب الفلسطيني بكل مكوناته كما ترفضه الأمتان العربية والإسلامية، ونحن نرد على الرئيس الأمريكي ونقول: إن مدينة القدس عاصمة الدولة الفلسطينية مدينة فلسطينية عربية إسلامية، فلا قيمة لفلسطين بدون القدس ولا قيمة للقدس بدون المسجد الأقصى المبارك، وقد كانت القدس وما زالت وستبقى مدينة فلسطينية عربية إسلامية إلى يوم القيامة.
إن الشعب الفلسطيني ومعه أبناء الأمتين العربية والإسلامية لن يسمحوا بتمرير هذا القرار الجائر، فقد جمع الفلسطينيون والعرب والمسلمون شملهم ووحدوا كلمتهم؛ لأن قضية القدس تجمع الفلسطينيين كما تجمع أبناء الأمتين العربية والإسلامية، وما زلنا نذكر وقفة أهلنا المقدسيين في منتصف شهر يوليو الماضي عندما قررت سلطات الاحتلال الإسرائيلي تركيب الكاميرات الخفية والبوابات الإلكترونية، حيث وقفوا سداً منيعاً أمام تنفيذ هذا المخطط الإجرامي، فقد تصدوا رجالاً ونساءً وشيباً وشباناً مسلمين ومسيحيين لهذا القرار الظالم، وخلفهم كل الفلسطينيين والعرب والمسلمين، حيث أدوا صلواتهم في شوارع وأزقة المدينة المقدسة، وأجبروا سلطات الاحتلال على رفع هذه البوابات وإزالة الكاميرات، فعلى هذه الأرض المباركة ستتحطم جميع المؤامرات.
طمس المعالم العربية والإسلامية في مدينة القدس
في كل يوم تتعرض مدينة القدس لمجزرة تستهدف الحضارة والتاريخ، فهي تتعرض لحرب مفتوحة على كافة الأصعدة، كما أنها تواجه وضعاً كارثياً نتيجة الإجراءات الإسرائيلية الهادفة إلى تهويدها، حيث تقوم سلطات الاحتلال الإسرائيلي ببناء كُنس عديدة حول المسجد الأقصى المبارك لإخفاء معالمه، ومنها: بناء كنيس “جوهرة إسرائيل” في حي الشرف في قلب البلدة القديمة بالقدس، ويُقام هذا الكنيس على أنقاض وقف إسلامي وسيتألف من ست طبقات، حيث إن سلطات الاحتلال تسعى جاهدة لتشويه المشهد العام لمدينة القدس المحتلة وإخفاء معالم المسجد الأقصى المبارك وذلك من خلال إقامة معالم يهودية مزورة، وكذلك قيام سلطات الاحتلال الإسرائيلي بتغيير أسماء ومعالم في مدينة القدس المحتلة بإطلاق أسماء يهودية جديدة عليها بهدف العبث بمسميات الأماكن التاريخية، وكذلك الاعتداء على القصور الأموية التاريخية المقامة على الأراضي الوقفية الإسلامية بافتتاح سلطات الاحتلال لما يسمى (بمطاهر الهيكل المزعوم – المغطس)، ومحاربة المؤسسات التعليمية في مدينة القدس من خلال العمل على تغيير المناهج التعليمية الفلسطينية وإغلاق بعض المدارس، بالإضافة إلى اعتداءات سلطات الاحتلال على الأماكن المقدسة المسيحية.
كما تقوم سلطات الاحتلال الإسرائيلي بالاعتداء على المقابر الإسلامية في المدينة المقدسة وفي مقدمتها مقبرة باب الرحمة، حيث تقوم بهدم وتجريف بعض القبور داخلها، وهذا الاعتداء ليس جديداً فقد سبقته اعتداءات كثيرة على عدد من المقابر منها: مقبرة مأمن الله، ومقبرة الجماسين، ومقبرة الشيخ مونس، ومقابر أخرى تم إزالتها وتحويلها إلى مناطق خضراء وإقامة مبان عليها بعد تجريفها، وإقامة ما يسمى بمتحف التسامح على أجزاء من مقبرة مأمن الله.
دعوة نبوية للأمتين العربية والإسلامية
إن القدس لا يمكن أن تُنسى أو تُترك لغير أهلها، مهما تآمر المتآمرون وخَطَّط المحتلون الذين يسعون لطمس طابعها العربي الإسلامي، ومحو معالمها التاريخية والحضارية، وتحويلها إلى مدينة يهودية.
إننا ندعو أبناء الأمتين العربية والإسلامية إلى ضرورة دعم المرابطين في مدينة القدس للحديث الذي روته ميمونة مولاة النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: (يَا رَسُوَلَ اللهِ، أَفْتِناَ فِي بَيْتِ الْمَقِدْسِ، قَالَ: أَرْضُ الْمَحْشَر ِوالْمَنْشَر، ائْتُوهُ فَصَلُّوا فيِه، فَإِنَّ صَلاَةً فِيِه كَأَلْف صَلاَة فِي غَيْرِهِ، قَلتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَتَحَمَّلَ إليه؟ قال: فَتُهْدِي لَهُ زَيْتاً يُسْرَجُ فِيهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذِلكَ فَهُوَ كَمَنْ أَتَاهُ)(5).
فهذه دعوة نبوية لأبناء الأمة بأن يشدوا الرحال إلى المسجد الأقصى المبارك، فمن لم يستطع منهم كالعرب والمسلمين خارج فلسطين والذين لا يستطيعون الوصول نتيجة للاحتلال الإسرائيلي، فهؤلاء عليهم واجب كبير، وهو مساعدة إخوانهم وأشقائهم المرابطين في مدينة القدس من سدنة وحراس، وتجار، وطلاب، وجامعات، ومستشفيات، ومواطنين، والذين يشكلون رأس الحربة في الذود عن المقدسات الإسلامية في فلسطين بالنيابة عن الأمتين العربية والإسلامية، وذلك بإقامة المشاريع الإسكانية وترميم البيوت في البلدة القديمة؛ لاستيعاب الزيادة السكانية للفلسطينيين في مدينة القدس، ودعم المستشفيات والجامعات والمشاريع الخيرية، وكذلك تشجيع الاستثمار في المدينة المقدسة؛ حتى يستطيع المقدسيون التصدي لمؤامرات المحتلين والمحافظة على هوياتهم المقدسية، والثبات في بيوتهم بالبلدة القديمة والتي تعمل سلطات الاحتلال على تفريغها من أهلها، وإسكان المستوطنين بدلاً منهم؛ لإحداث تغيير ديموغرافي في مدينة القدس.
إن مدينة القدس بحاجة إلى خطوات فعلية تسهم في المحافظة على عروبتها وإسلاميتها ودعم صمود أهلها، فمدينة القدس احتلت عبر التاريخ مرات عديدة ولكنها لفظت المحتلين، وستلفظ هذا المحتل، إن شاء الله، هذه المدينة المقدسة في أَمسِّ الحاجة إلى أيِّ جُهْدٍ يُميِطُ اللّثام عما يجري من أعمال بشعة بحقها وتراثها وأهلها، والتي تشكل إهانة للإنسانية ووصمة عار في جبينها.
القدس تناديكم اليوم؛ للتأكيد على أنها عاصمة دولة فلسطين، ولتطبيق العدالة في أعدل قضايا الدنيا، قضية فلسطين، وقضية شعب فلسطين، وحقه في العودة إلى وطنه، وحق تقرير مصيره، وخروج الأسرى والمعتقلين، وقيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف.
نسأل الله أن يحفظ الأقصى والقدس وفلسطين وسائر بلاد المسلمين من كل سوء
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الهوامش:
1- سورة الإسراء الآية (1).
2- أخرجه البخاري.
3- أخرجه البخاري.
4- أخرجه ابن ماجه.
5- أخرجه ابن ماجه.