مدينــة عنابـــة بمنــاسبــــة مـــرور ثــلاثين قــرنــا علــى تأسـيـسـهـا صورة عنابة في كتابات الرحالة العرب والمسلمين
الحلقة الثالثة
أ. د. محمد عيلان/
يجمع الرحالة العرب في آثارهم على أن مدينة (عنابة/بونة) موطن خصب ومرفأ هام، تتعايش فيه القبائل المتباينة، والمهاجرون الوافدون إليه من أصقاع بلاد حوض البحر الأبيض المتوسط ومن العمق الجزائري إلى حدود خط الصحراء الكبرى الإفريقية، وأنها تتوفر على اقتصاد زراعي يفي بحاجة السكان ويفيض، ويصفون (عنابة) بأنها مدينة غير منيعة بعد تغيير موقعها عن الموقع الأول بنحو 03 كلم غربا، لذلك لم تكن عاصمة لأمير أوخليفة؛ لأنها اشتهرت بكونها ثغرا عرف بثغر (عنابة) تارة، وبثغر (أبي مروان) العالم المشهور دفين مدينة (عنابة)، بالقرب من المسجد الذي سمي باسمه، تارة أخرى، وهو مطل على البحر في مرتفع المدينة، وأفتح قوسا هنا لأعرف بهذه الشخصية (بإيجاز)التي اشتهرت بها عنابة: هو أبو عبد الملك مروان بن علي بن محمد الأسدي البوني، كان من الفقهاء العلماء توفي سنة 505 هـ ـ 1111م، وإليه ينسب أقدم مسجد في عنابة في أواسط القرن الرابع الهجري لأنه اتخذه مدرسة يدرس فيه علوم الحديث والفقه المالكي، وشرح موطأ الإمام مالك وأشرف على الرباط فيه. توفي بعنابة، وله تلاميذ من أقطار مختلفة.. وعن المسجد ومن أمر ببنائه راجع: الشيخ نعيم النعيمي ـ محاضرة منشورة ألقاها بمناسبة الاحتفال بالذكرى الألفية لمسجد (أبو مروان) بعنابة عام 1968، وراجع مجلة الأصالة العدد 34/35 ـ ص 48. (19).
ومن هؤلاء الرحالة ابن حوقل في كتابه: (المسالك والممالك والمفاوز والمهالك) الذي ألفه سنة 360 ه، إذ يقول: (بونة مدينة مقتدرة وليست بالكبيرة ولا بالصغيرة وهي على نحر البحر، ولها أسواق حسنة، وتجارة مقصودة، وأرباح متوسطة، وفيها خصب ورخص موصوف، وفواكه كثيرة وبساتين قريبة، وأكثر فاكهتها من باديتها، والقمح والشعير في أكثر أوقاتها، كما لا قدر له. وبها معادن حديد كثيرة، ويزرع بها الكتان، ولها عامل قائم بنفسه، ومعه من البربر عسكر لايزول كالرابطة. وبها وجوه من التجارة، كالصوف والأغنام، وبها من العسل والخيرات ما يزيد على من داناهم من البلاد المجاورة لهم. أكثر سوائمهم البقر، ولهم إقليم واسع، وبادية وحوزة بها نتاج كثيرة، وقلَّ من تفوته الخيل السوائم للنتاج)(20).
ويصفها البكري في كتابه: (المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب المسمى كتاب: (المسالك والممالك)، انتهى من تأليفه سنة 460 هـ: (مدينة بونة أولية، وهي مدينة (أوغشتين) العالم بدين النصرانية، وهي على ساحل البحر في نشز من الأرض، منيع مطل على مدينة (سيبوس)، وتسمى اليوم مدينة (زاوي) وبينها وبين المدينة الحديثة نحو ثلاثة أميال، ولها مساجد وأسواق وحمام، وهي ذات ثمر وزرع، وقد سُوِّرت بونة الحديثة) بعد الخمس وأربعمائة هجرية. وفي (بونة الحديثة) بئــر على ضفة البحر منقورة في حجر صلد يسمى: (بئر النترة) [الموجود حاليا في أعلى ساحة السلاح] منها يشرب أكثر أهلها، وبغربي هذه المدينة ماء سائح يسقي بساتين، وهو مستتر حسن ويطل على (بونة جبل) «زغوغ» (أي الإيدوغ )، وهو كثير الثلج والبرد. ومن العجائب أن فيه مسجدا لا ينزل عليه شيء من ذلك الثلج، وإن عم الجبل كله. ومدينة (بونة) بَرِّية وبحرية، كثيرة اللحم واللبن والحوت والعسل، وأكثر لحمانهم البقر، إلا أنها يصحُّ بها السودان ويسقم بها البيضان. وحول (بونة) قبائل كثيرة من البربر، (مصمودة) و (أَوْرَبة) وغيرهما، وأكثر تجارها أندلسيون (21).
وقال عنها الشريف الإدريسي في كتابه: (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) الذي ألفه سنة 548هـ: (مدينة (بونة) وسْطة ليست بالكبيرة ولا بالصغيرة، وهي على نحر البحر، وكانت لها أسواق حسنة وتجارة مقصودة وأرباح موجودة، وكان فيها كثير من الخشب موجود جيد الصفة، ولها بساتين قليلة وشجر، وبها من أنواع الفواكه ما يعم أهلها، وأكثر فواكهها من باديتها، والقمح والشعير في أوقات الإصابات كثير جدا، وبها معادن حديد جيد، ويزرع بأرضها الكتان، والعسل بها موجود ممكن، وكذلك السمن، وأكثر سوائمهم البقر، ولها إقليم وأرض واسعة. تغلبت العرب عليها، وافتُتِحت (بونة) على يد أحد رجال الملك المعظم (روجار) في سنة 548 هـ، وهي الآن في ضعف وقلة عمارة، وبها عامل من قبل الملك المعظم (روجار) من آل حماد، وبجنبها (جبل إيدوغ) وهو عالي الذروة، سامي القمة، وبها معادن الحديد كما ذكرنا..) (22).
وكانت (عنابة) قد تعرضت للغزو من قبل أسطول (الجنويين) سنة 425 هـ وما بعدها فخربوها. وعندما تغلب الموحِّدون على مملكة (بجاية) أمر (روجار الثاني) ملك (صقلية) رئيس أسطوله (فيليب)، وكان أصله من المهدية بالاستيلاء عليها، وإقامة عامل من قبل (آل حماد)، ثم رجعت بعد ذلك إلى (آل حماد) سنة 555 هـ .
وقال صاحب (كتاب الاستبصار في عجائب الأمصار) الذي أتم تأليفه سنة 587 هـ: (بونة مدينة قديمة من بناء الأوائل، وفيـها آثار كثيرة، وهي على ربوة مشـرفة على البحر، وهي من أنزه البلاد وأكثرها لبنا ولحما وعسلا وحوتا ، والبحر يضرب في سورها، وفيها بئر على ضفة البحر منقورة في حجر صلد، ماؤه أعذب ماء وأنفعه، ومنها يشرب أكثر أهلها لعذوبة مائها، وبغربي هذه المدينة ماء سائح يسقي بساتينها وأرضها، وموضع جناتها متنزه حسن مشرف على البحر، ويطل على مدينة بونة جبل (زغوغ) يقصد (جبل إيدوغ)، وهو كثير الثلج والبرد، ومن العجائب أن فيه مسجدا قديما لا ينزل عليه شيء من ذلك، فإذا عم الجبل كله رأيت المسجد في وسطه كأنه شامة. وبغربي مدينة (بونة) بركة في دورها نحو عشرة أميال، وفيها سمك كثير جليل، وفيها طائر يعرف بـ (الكيكل). ومرسى مدينة بونة تسمى مرسى (الأزقاق) من المراسي المشهورة. وبونة في جوف البحر يسمى جوف (الأزقاق)، وهو صعب وفيه عطبت مراكب كثيرة) (23).
ووصفها ياقوت الحموي المتوفى سنة 626 هـ في كتابه: معجم البلدان (بونة مدينة بافريقية بين مرسى الخرز وجزيرة مزغناي، وهي مدينة حصينة مقتدرة وكثيرة الرخص والفواكه والبساتين القريبة، وأكثر فاكهتها من باديتها، وبها معادن حديد، وهي على البحر) (24).
وقال أبو الفداء عماد الدين إسماعيل في كتابه: (تقويم البلدان) الذي أنهاه سنة 721 هـ: (مدينة (بونة) جليلة عامرة على البحر، خصبة الزرع، كثيرة الفواكه رخيصة، وبظاهرها معادن الحديد، ويزرع بها كتان كثير، وحدث بها عن قرب مغاص على المرجان ليس كمرجان مرسى الخرز) (25) (يقصد مرسى مدينة القالة).
ووصفها ابن خلدون فقال:(إن (بونة) غير منيعة؛ لوجودها بالسهل وعلى البحر، وهي كالإسكندرية، وسلا، وطرابلس، فهي محل الطامعين وليس لها عصبة) (26).
ووصفها محمد بن عبد المنعم الحميري في كتابه: (الروض المعطار في خبر الأقطار ) المتوفى سنة 900 هـ: (بونة من بلاد افريقية قريبة من فحص (قُلْ) وهي مدينة قديمة من بناء الأُول، وبها آثار كثيرة، وهي على ساحل البحر في نشز من الأرض مشرف على البحر وعلى فحوصها وقراها، وهي من أنزه البلدان، وأكثرها لبنا ولحما وعسلا وحوتا.. وموضع جناتها منتزه حسن مشرف على البحر. ويطل على (بونة) جبل (زغوغ/الإيدوغ ) وهو كثير الثلج.. وبغربي مدينة (بونة) بركة في دورها نحو عشرة أميال، فيها سمك جليل كثير، وفيها طائر يعرف بـ (الكيكيل)، وهو يعيش على وجه الماء ويفرخ، فإن أحس بحيوان في البر أو إنسان يروم أخذه، أخذ عشه بفراخه برجليه حتى يصير وسط البركة حيث يأمن، وهو طائر حسن، وهو الذي يسمى بمصر (الغَطَّاس).. ومرسى (بونة) من المراسي المشهورة وتسمى: (بلد العُنَّاب) لكثرة العُنَّاب فيها، ومنه خشب سقوفهم ووقودهم، ومنه جميع ما يتصرفون فيه) (27).
وعندما مر الحسن بن الوزان (ليون الافريقي) عام 923 هـ بعنابة وصفها بقوله: (تشمل مدينة عنابة على 3000 منزل، وهي مكتظة بالسكان، إلا أن المنازل الجميلة قليلة بها، وفيها جامع جميل جدا، بني على شاطئ البحر، وسكانها طيبون، ومنهم التجار والصناع والنساجون.. وفي الجانب الشرقي منها قصبة عظيمة محصنة تحصينا محكما.. ويسكنها الولاة. وتمتد الأراضي المزروعة خارج المدينة إلى مسافة 40 ميلا طولا و 25 ميلا عرضا. وهذه الأراضي صالحة للحبوب، وتسكنها قبيلة (مرداس) العربية، تقوم بفلحها، وتملك كثيرا من البقر والضأن، وتنتج هذه المواشي من السمن كميات، يبيعها أصحابها في سوق (عنابة) بثمن قليل لوفرتها، وكذلك الأمر بالنسبة للقمح، وتأتي سفن عديدة كل عام من (تونس) و (جربة) وسائر موانئ القطر، وكذلك من (جنوة)، لتشتري القمح والسمن من (عنابة) حيث تستقبل استقبالا حسنا) (28).
وقال (مارمول كربخال) عن عنابة الذي قدم من إسبانيا إلى إفريقيا سنة 952 هـ وكان أسيرا في كتابه (افريقيا): (بها أجود أراضي البربر وأكثرها خصبا وأنقاها هواء، تحيط بها أسوار حصينة. ولها بابان رئيسيان يفضي أحدهما إلى البحر، ويفضي الثاني إلى جهة الحصن الذي لا يبعد عنه إلا بمقدار نصف رمية قوس قذافة، وموقعه فوق ربوة مشرفة على الباب.. ودُورُ هذه المدينة متقنة البناء، وبها مسجد فخم، وبجانبه مدرسة يتعلم فيها شرع محمد (29) . وليس بالمدينة ولا بالحصن بئر ولا ساقية، وإنما بها خزانات تجري إليها مياه الأمطار من سطوح المنازل، وهي ذات سقوف مستوية مغطاة بطبقة من الجير والرمل والإسمنت، وتوجد جنوبي الحصن قريبا من جداره بساتين ومنتزهات وأجنة كثيرة، بها اللذيذ من الثمار. ولـ(عنابة) مرسى صغير غير مستور من ريح الشمال، تقصده سفن التجارة لشراء الجلد، والصوف، والسمن، والتمر، وغيرها من البضائع الوفيرة في هذه الجهات، فهي تتكون من البربر تعيش في دواوير مثل العرب، ورجالها أغنياء بما يملكون من الأراضي والخيل والمواشي. وفي كل يوم جمعة يهرعون إلى سوق تقام عند أبواب المدينة، يأتي إليها التجار من (تونس) و(الجلفة) و(طرابلس)، بل وحتى من جنوة ، ولهم في الاتجار بها أرباح كثيرة، ويوجد شرقي المدينة شاطئ متعرج يصطاد به المرجان (30).
وإلى هنا لم أعثر على مراجع للرحالين العرب يمكن اعتمادها في وصف مدينة(عنابة)، ما عدا ما كان من بعض الإشارات لعلماء راحلين في اتجاه الحج، أو للدراسة والسياحة في المشرق العربي.
ولذلك فإنني اكتفيت بما ذكرت لا على سبيل التأريخ؛ فذلك شأن المختصين من زملائنا المؤرخين، ولكن تركيزي سيكون على الجانب الثقافي الذي بالعودة إليه يمكن استجلاء بعض المعالم الخفية من التاريخ الاجتماعي المتولد عن التأثير السياسي، الذي هو عنصر هام في دراسة المؤرخ.
يتبع