اللشمينيوز… هل هو داء الفقراء فقط؟!/ جمال نصر الله
في الدول المتقدمة حينما تحارب الجهات المختصة أي نوع من الداء أو الظواهر المُعيبة اجتماعيا وإنسانيا، تتوجه مباشرة إلى الأسباب الجذرية الباطنية بنية القضاء على قوائمها وأحيائها. ووصل بهم الأمر إلى حد عدم الحكم بالإعدام على المجرم مباشرة. بل جلب مجموعة من المختصين والخبراء لدراسة الدوافع النفسية والروحية وكذا الثقافية الاجتماعية التي كانت وراء الشخص لفعلته هذه.
وقد تم نهج العمل بنفس الطرائق مع عدد من الأمراض المستعصية. في زمن مازالت البحوث جارية حتى يرث الله الأرض ومن عليها؛ وأما الأمر في دول العالم الثالث ممن توصف بالأكثر تخلفا وفقرا وحرمانا، فإن الأمور تختلف تماما عن الأولى. بحكم وجود تفاوت طبقي ملحوظ وظاهرة للعيان في الحياة اليومية، حيث احتكار البارونات والسماسرة وتجار الأزمات يبيّن لك حجم المآسي التي تلحق تباعا، وتنتج وتطفو على السطح.
فهناك رق واستعباد دون تسميته بمسمياته الحقيقية، وهناك عمالة للأطفال وتحرش جنسي، وعنف مدرسي وآخر في الملاعب، وفي الإدارات والأسواق العامة، وضد المرأة وفي المنزل، ولا تكاد هذه الظواهر تخلو من مكان معين إلا من رحم ربك. بسبب رواسب وصدمات لازالت نابضة المفعول وحية، بل متجذرة تعمل كالآلة بكل حرية دون رادع يُذكر.
الأوربيون ممن نُكن لهم تحيات الإجلال والاحترام بحجة عقلانيتهم وإعمالهم لكثير من العلوم والمعارف، مرت مجتمعاتهم بنفس حجم مشاكلنا وربما أكثر، لكن بصيغ وألوان وأنواع أخرى؛ لكنهم عالجوها قبل أن يفكونها ويضعونها على طاولة التشريح والتشخيص. ثم البحث عن أنجع السبل للقضاء على خاطرها، ويكمن الفرق بين العالمين، أي: هم ونحن في حجم الاهتمام والتفكير ليس إلا؟ ودون الدخول في استهلال مطوّل، فأمامنا في الجزائر ظاهرة ليست بدخيلة اللحظة، فلطالما عانى من ويلاتها المجتمع بمختلف شرائحه لسنين عدة.
إنها ظاهرة اللشمينوز؛ والتي لا يمكن البتة وصفها بالمرض، لأنها ليست وليدة الطبيعة ولا المناخ ولا الحيوان بشكل مباشر. وإنما هي وليدة الإنسان نفسه، يوم يعجز عن نفض الغبار من حوله، لأنها عبارة عن طفيل تنقله نوع حشرة الناموس المسماة الفليبوتوم من الأماكن القذرة، خاصة تلك المتواجدة صوب قنوات الصرف الصحي. وأخطرها (كلا آزار)، ونقول بهذا الأمر لأن الإنسان وحده من هو أولى بتنقية وتنظيف بيئته، بل إبعاد كل المخاطر عن محيطة إذا توفرت لديه ثقافة بيئية ومعرفة دقيقة .
بأبسط الأمور المتعلق بالصحة، تقول التقارير الصحية بأن عدد المصابين بهذا الداء الجلدي الخطير يعد بالآلاف حتى لا نقول بالملايين، وأغلب المصابين به يمكن تحديد جغرافية إقامتهم؛ حيث لا يبعدون كثيرا سواء عن مزابل أو جسور أو أكواخ وأودية، كما تعمل السلطات المحلية في غالب الأحيان على رش هذه الأماكن مرة واحدة في السنة، (في شهر ماي تقريبا) بحجة القضاء على تكاثر الناموس والحشرات الضارة، وهو الشهر الذي تبيض فيه هذه الحشرة. لكن الأصل هو أن لهذه الحشرة عشرات الأنواع، وكان الأجدر هو تهيئة وتنقية الأماكن التي يجدها ملجأ للتواجد والتكاثر، وليس تركها والإبقاء عليها، ثم محاربة ما يصدر منها بطرق دراماتيكية وعشوائية، الإنسان وحده هو المسؤول عن العيش داخل فضاءات محصنة وآمنة ومحاطة بكل أنواع السلامة الصحية. فإن عجز بإمكانياته المحدودة لدى الهيئات العمومية أو الجمعيات، فوجد ضالته بها. لكن للأسف هذا التواصل مفقود في أحيائنا وأريافنا وقرانا الجزائرية بسبب منظومة تائهة من السياسات الآنية والمؤقتة؛ والتي لا ينجو منها إلا من هو أقوى ماديا، ومجهزا بأحدث التقنيات البيئية، كالإقامة في السواحل المحروسة، والفيلات المحاطة بالورود، والمزروعات المستوردة. وهذا ما يعيدنا للحديث عن التفاوت الطبقي الذي قتل أغلب الجزائريين، وجعلهم فرائس سهلة، ليس فقط للأمراض القديمة والحديثة فحسب، بل لليأس والقنوط الحياتي كذلك.