مساهمات

في ظــــلال السنـــة النبويـــة الشريفـــة

شـــروط ضروريـــة لتــذوق الحــــلاوة الإيمانيـــة(2)

أ.د/ مسعود فلوسي*

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلَاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ حَلَاوَةَ الإيمَانِ: أنْ يَكونَ اللَّهُ ورَسولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا سِوَاهُمَا، وأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ، وأَنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ في الكُفْرِ كما يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ».

 

محبة الرسول تابعة لمحبة الله
محبة النبي صلى الله عليه وسلم، تأتي في الدرجة الثانية مباشرة بعد حب الله عز وجل، وسابقة على حب أي مخلوق أو شيء آخر، لماذا؟ لأن فضله صلى الله عليه وسلم على الإنسانية، سابق على أي فضل آخر بعد فضل الله عز وجل، محمد صلى الله عليه وسلم هو الإنسان الذي كلفه ربه عز وجل بأعظم مهمة فأداها على خير ما ينبغي أن تؤدى عليه.
فمنذ أن خلق الله عز وجل الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لم يوجد في الناس مخلوق أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الذي قدم للبشرية – بعد الله عز وجل – أعظم خدمة.
البشرية قبل أن يُبعث محمد صلى الله عليه وسلم، كانت تعيش في ظلام دامس، الديانات السماوية كانت قد حرفت تماما ولم يبق فيها شيء من الدين الصحيح، عبادة الاوثان عمت الجزيرة العربية وغيرها، الناس صاروا يعبدون كل شيء إلا الله.
فالبشرية كانت في موت، لأن الحياة ليست هي الأكل والشرب والنمو والتزاوج والتناسل، هذه حياة لا يفترق فيها الإنسان عن الحيوان. حياة الإنسان في علاقته بربه، وقبل أن يأتي محمد صلى الله عليه وسلم، كانت علاقة الناس بربهم قد انقطعت تماما، وصاروا موتى، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الرسالة الخاتمة التي بعثه بها ربه عز وجل، وأحيا بها الناس من جديد. لم يُحْيِ النبي صلى الله عليه وسلم قومَه أو قبيلته أو قريته أو البلاد المحيطة بها فحسب، لقد أحيا الدنيا كلها.
وهنا نلاحظ أنه عليه الصلاة والسلام جمع في خصلة واحدة بين حب الله وحب نبيه صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنهما لا ينفصلان؛ فالذي يحب الله عز وجل بالضرورة يحب محمدا صلى الله عليه وسلم، والذي يحب محمد صلى الله عليه وسلم هو بالضرورة يحب قبل ذلك ربه سبحانه وتعالى.
لا يجوز أن تحب مخلوقا أكثر من محمد
محمد صلى الله عليه وسلم هو الأوْلى بحب الإنسان المؤمن بعد الله عز وجل، فالإنسان المؤمن لا يُتصور منه أن يحب أحدا – بعد الله عز وجل – أكثر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نفسه التي بين جنبيه.
ينبغي أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم أحب إليك من نفسك ومن والديك ومن زوجك ومن أولادك ومن أقاربك ومن سائر الناس، وأن يكون أحب إليك من كل شيء في هذا الوجود، لماذا؟
لأنه لا فضل لأحد بعد الله عز وجل على المسلم، كما لمحمد صلى الله عليه وسلم.. بفضل محمد صلى الله عليه وسلم وُجدت هذه الأمة، وبفضل محمد صلى الله عليه وسلم اهتدى الناس إلى الحق، وبفضل محمد صلى الله عليه وسلم سيدخل المؤمنون الجنة وسينجيهم الله عز وجل من عذابه يوم القيامة، هل هناك أفضال أكثر من هذه؟
الإنسان عندما ينظر إلى فضل والديه عليه يجده لا يقارن مع فضل محمد صلى الله عليه وسلم، مهما بذل والداك في سبيلك، مهما وفرا لك، مهما أحاطاك بالعناية والرعاية، فضلهما لا يبلغ فضل محمد صلى الله عليه وسلم.
وأولادك إذا أصلحهم الله، مهما أرادوا أن يكافئوك بعد ذلك على ما فعلته معهم أو من أجلهم، لن يبلغ فضلهم عليك فضل محمد صلى الله عليه وسلم.
فليس هناك من له فضل عليك، أيها الإنسان المؤمن، بعد الله عز وجل مثل ما لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
فنحن نحب محمدا صلى الله عليه وسلم لفضله علينا، وحتى إذا لم يكن لمحمد صلى الله عليه وسلم فضل، لأن الفضل كله لله عز وجل فهو الذي بعثه وهو الذي هداه وهو الذي وفقه، فيكفي أن الله يحبه، وأمرنا بحبه، والمؤمن يحب من يحبه الله عز وجل، وهذا معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحِبوا اللهَ لما يغْذوكم من نعَمِه، وأحِبُّوني بحُبِّ اللهِ» [رواه الترمذي]؛ بمعنى أحبوا رب العالمين لما أحاطكم به من النعم، وأحبوا محمدا صلى الله عليه وسلم لأن الله سبحانه وتعالى يحبه.
حب محمد من صميم الإيمان
حب محمد صلى الله عليه وسلم من الإيمان، بل هو من شروط الإيمان، فلا يصح الإيمان ولا يصدق إلا إذا كان الإنسان يحب محمدا صلى الله عليه وسلم، والإنسان الذي يدعي الإسلام ولا يحب محمدا صلى الله عليه وسلم هو كذاب، وكل الدلائل قائمة على كذبه، إذ كيف تحب الله عز وجل ولا تحب من يحبه الله؟ كيف تقول أنا مسلم ولا تحب من جاءك بهذا الإسلام؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْهِ مِن والِدِهِ ووَلَدِهِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ» [رواه البخاري].
فمحمد صلى الله عليه وسلم هو أجدر الناس بالحب، وحبه يجب أن يقدم على حب أي شيء آخر، عن عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال: كُنَّا مع النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو آخِذٌ بيَدِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، فَقالَ له عُمَرُ: يا رَسولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِن نَفْسِي، فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لَا، والَّذي نَفْسِي بيَدِهِ، حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْكَ مِن نَفْسِكَ»، فَقالَ له عُمَرُ: فإنَّه الآنَ، واللَّهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن نَفْسِي، فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «الآنَ يا عُمَرُ» [رواه البخاري]، يعني الآن حققت الإيمان الصحيح، الآن بلغت الدرجة المطلوبة من الإيمان وهي أن تحب محمدا صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسك.
حب محمد صلى الله عليه وسلم من حب الله، ولذلك المؤمن حريص على تقوية هذا الحب في قلبه، لا يكفي أن تقول إني أحب محمدا صلى الله عليه وسلم، عليك أن تقوي هذا الحب، وهذا الحب لكي تقويه يجب عليك أن تقرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعرف أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم التي قال مدحه بها ربه عز وجل في قوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4]، وتكفي شهادة الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولا نحتاج إلى شهادة أخرى تشهد لمحمد صلى الله عليه وسلم بكمال الأخلاق.
محمد هو الإنسان النموذج
محمد صلى الله عليه وسلم أعطانا المثل من نفسه، وجعله الله عز لنا نموذجا لنفهم أن الإسلام ليس مجرد مثاليات وإنما هو واقع تجسد في شخص اسمه محمد بن عبد الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يكن مَلَكاً، لم يكن شخصا استثنائيا، كان إنسانا بكل معاني الإنسانية، عاش كإنسان، لم يكن عنده شيء زائد على غيره من البشر، ومع ذلك استطاع أن يجسد هذا الدين في سلوكه وفي حياته وفي علاقاته.
ورب العالمين سبحانه وتعالى جعل لنا هذا الرسول أسوة وقدوة لمن يقتدي، حتى لا يأتي أحد ويدعي أن الدين صعب، أو أن فعل الأوامر صعب، أو أن ترك المناهي صعب، قال تعالى: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21].
كما أعطانا نماذج من أصحابه، صحيح أنهم لم يبلغوا ما بلغه محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم بلغوا الدرجة العظمى؛ الصديق أبو بكر رضي الله عنه، الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه، علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعشرات، بل مئات من الصحابة الذين رباهم محمد صلى الله عليه وسلم وبلغوا ما بلغوا في العمل بهذا الدين.
فإذن، محمد صلى الله عليه وسلم يستحق الحب لأن الله يحبه، وهو يستحق الحب أكثر من غيره لأنه لا فضل لأحد على الناس بعد الله عز وجل كما لمحمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد صلى الله عليه وسلم جدير بالحب لأنه بلغ الغاية في أخلاقه وفي معاملاته.
حب محمد ليس مجرد عاطفة في القلب
حب محمد صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يكون مجرد عاطفة، أو مجرد دعوى، لأن الادعاء يحسنه كل الناس، لابد من البرهان، لابد من دليل على الصدق في حب محمد صلى الله عليه وسلم، وأول دلائل هذا الصدق حب ما يحبه محمد صلى الله عليه وسلم وحب من أحبه محمد صلى الله عليه وسلم وحب كل تصرف كان يعمله محمد صلى الله عليه وسلم، فالحب سلوك وعمل وممارسة في الواقع.
لا يمكن لإنسان أن يحب محمدا صلى الله عليه وسلم ويكره سنة من سننه، أو يسمع كلام محمد صلى الله عليه وسلم ويقول دعونا من هذا الكلام فقد تجاوزه الزمن أو هذا كلام القرون الخالية أو ما إلى ذلك، ثم يقول أنا مسلم وأحب محمدا صلى الله عليه وسلم، أين حب محمد صلى الله عليه وسلم وأنت تنكر كلامه وتعتبره كلاما لم يعد له معنى في هذا العصر؟
حب محمد صلى الله عليه وسلم يقتضي العمل بسنته، ويقتضي التمسك بما جاء به عليه الصلاة والسلام، محمد صلى الله عليه وسلم جاء بالقرآن والسنة، وكلاهما وحي من الله عز وجل، والعمل بهما مطلوب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تركتُ فيكم أمرينِ لن تضلُّوا ما تمسَّكتم بهما: كتاب الله، وسُنَّة رسوله» والحديث مروي في موطأ الإمام مالك، فالكتاب والسنة هما الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والمسلم لا يكون مسلما حقا إلا إذا عمل بما في القرآن وعمل بما في السنة، لا يكفي القرآن وحده ولا تكفي السنة وحدها، بل هما معا يكمل أحدهما الآخر، لأن الله عز وجل أنزل الذكر وهو القرآن، وأمر محمدا صلى الله عليه وسلم أن يبين هذا الذكر بالسنة: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل: 44]، (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [آل عمران: 31].
فإذا كنت صادقا في دعوى حب الله عز وجل وفي دعوى حب محمد صلى الله عليه وسلم، فالشرط الأول لتصدق في هذه الدعوى هو أن يظهر ذلك في سلوكك وفي معاملاتك وفي علاقاتك، وهو أن تتبع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
يتبع

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com