المدينة المقدسة … ومواجهة خطر التهويد
د. يوسف جمعة سلامة*/
أخرج الإمام أحمد في مُسْنده بسنده عَنْ ذِي الأَصَابِعِ، قَالَ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِ ابْتُلِينَا بَعْدَكَ بِالْبَقَاءِ، أَيْنَ تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: عَلَيْكَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَنْشَأَ لَكَ ذُرِّيَّةٌ، يَغْدُونَ إِلَى ذَلِكَ الْمَسْجِدِ وَيَرُوحُونَ(1).
فلسطين عامة وبيت المقدس خاصّة هي الملجأ وقت اشتداد المِحَن والكروب، وفلسطين أرض وقف إسلامي بأرضها، ومساجدها، ومصلّياتها، ومقابرها … إلخ، ومن الجدير بالذكر أنَّ فلسطين أخذت مكانتها من القدس، والقدس أخذت مكانتها من المسجد الأقصى المبارك كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (2)، ففي المسجد الأقصى المبارك صلّى رسولنا محمد – صلّى الله عليه وسلّم – بالأنبياء إماماً في ليلة الإسراء والمعراج، كما صلّى في ساحاته أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وخالد بن الوليد، وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهم من مئات الصحابة الكرام – رضي الله عنهم أجمعين-، وفي جنبات الأقصى رفع الصحابي الجليل بلال بن رباح – رضي الله عنه – الأذان بصوته النّدي، وفي ظِلِّ هذا البيت دُفِنَ العديدُ من الصحابة الكرام- رضي الله عنهم أجمعين- وعلى رأسهم عبادة بن الصامت أوّل قاضٍ للإسلام في بيت المقدس، وشدَّاد بن أوس، وغيرهما من عشرات الصحابة –رضي الله عنهم أجمعين-، وما مِنْ شِبْر من أرضه إلاّ وشهد ملحمة أو بطولة تحكي لنا مجداً من أمجاد المسلمين.
الاعتداءات الإسرائيلية على المدينة المقدسة
تتعرَّض مدينة القدس لمجزرة بشعة من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي تستهدف الإنسان والمقدسات والتاريخ والحضارة في ظِلّ تعتيمٍ إعلامي كبير، إلا أنَّ سلطات الاحتلال في الفترة الأخيرة أصبحت تُجَاهِر في تهويدها للمدينة المقدسة بِطَمْس معالمها وتهجير سُكّانها، فما يحدث في هذه الأيام من جرائم في أحياء المدينة المقدسة، مثل: حيّ الشيخ جراح وحيّ البستان وفي سلوان والعيساوية وغيرها ليس عنّا ببعيد، حتى إنَّ الأموات والمقابر لم تسلم من هذه الجرائم البشعة، فالاعتداءات الإسرائيلية في المدينة المقدسة كثيرة ومتعدّدة وتتكرّر بشكل يومي، وتتمّ تحت حراسة قوات الاحتلال الإسرائيلي على مرأى ومسمع من العالم أجمع، وطالت كلّ شيء فيها من إغلاقٍ للمؤسسات، وملاحقةٍ للمرجعيات الشرعية والشخصيات الوطنية، ونهبٍ للأرض، وهدمٍ للبيوت، وتدميرٍ للمقابر، وفرضٍ للضرائب، وسحبٍ للهويات، بالإضافة إلى تزوير المناهج التعليمية وتزييف التاريخ، فكلّ مَعْلَمٍ عربي وإسلامي فيها يتعرض لخطر الإبادة والتهويد، والعالم وللأسف يُغلق عينيه ويصمّ أُذنيه عما يجري في مدينة القدس.
إنّنا نُؤَكِّد على أنَّ جميع المحاولات والإجراءات التهويديّة والاعتداءات التي تقوم بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي لن تنجح إِنْ شاء الله في تغيير الحقائق وطمس المعالم والمقدسات الإسلامية في المدينة المقدسة، فمدينة القدس ستبقى إسلامية الوجه، عربية التاريخ، فلسطينية الهوية، ولن يسلبها الاحتلال وجهها وتاريخها وهويّتها مهما أوغل في الإجرام وتزييف الحقائق.
الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى المبارك
تُشكّل الاعتداءات الإسرائيلية والاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى المبارك حلقة من المُخطّط الاحتلالي الإجرامي لفرض السيادة الإسرائيلية على المسجد الأقصى المبارك من خلال محاولة تقسيمه زمانيًا ومكانيًا؛ تمهيدًا لإقامة ما يُسَمّى بالهيكل المزعوم على أنقاضه لا سمح الله، وإنَّ قرار محكمة الاحتلال الإسرائيلي الباطل بالسماح لليهود بأداء صلوات صامتة في باحات المسجد الأقصى المبارك من أخطر القرارات والاعتداءات الإجرامية التي تقوم بها سلطات الاحتلال ضدّ أقصانا ومسرانا، كما أنَّ قيام المستوطنين برفع العلم الإسرائيلي وأداء الطقوس التّلمودية والنفخ في البوق داخل المسجد تحت حماية قوات الاحتلال الإسرائيلي؛ لتثبيت واقع جديد داخل المسجد الأقصى المبارك، يُعَدُّ تصعيداً خطيراً وخارجاً عن القانون والأعراف والمواثيق الدولية كافّة.
وما يجري في المسجد الأقصى المبارك يُعَدُّ استباحة مُبرمجة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي التي تستهدف تفريغ المسجد الأقصى المبارك من المصلين والمرابطين وتجفيف الوجود الإسلامي المقدسي في المسجد، من خلال منع المصلين والمرابطين من الوصول إليه.
إنَّ المسجد الأقصى المبارك هو مسجد إسلامي للمسلمين وحدهم، وهو يُمثل جزءاً من عقيدة ما يُقارب ملياري مسلم في العالم، وسيبقى مسجداً إسلامياً خالصاً إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها، وأنّه لا علاقة لغير المسلمين بهذا المسجد المبارك.
تحيّة إكبار وإجلال نُوَجِّهها لأهلنا المقدسيين ولعلمائنا الأجلاّء وسدنة الأقصى وحراسه وفلسطينيي الداخل، على وقفاتهم المشرّفة وصمودهم وثباتهم وتصدّيهم الدائم لقوات الاحتلال الإسرائيلي بشَتَّى الوسائل المُمكنة؛ دفاعاً عن أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، وهذا يُؤكّد ما نُطالب به مراراً وهو ضرورة دعم أهلنا المرابطين في المدينة المقدسة الذين يشكّلون خطّ الدفاع الأول عن الأقصى و القدس والمقدسات في شتّى المجالات: التعليمية والصحية والإسكانية والإغاثية … الخ.
الاعتداءات الإسرائيلية على المقابر الإسلامية
لم تقتصر الاعتداءات الإسرائيلية على المدينة المقدسة والأقصى والمقدسات، بل امتدت إلى المقابر الإسلامية أيضاً، فقد قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بالاعتداء على المقابر الإسلامية في فلسطين عامة ومدينة القدس بصفة خاصة، مثل: مقبرة مأمن الله، ومقبرة باب الرحمة، ومقبرة اليوسفية، ومقبرة المجاهدين، وغيرها من المقابر، علماً بأنّ أرض المقابر هي وقف إسلامي صحيح، كما أنّ إزالة القبور حرام شرعاً، وأنّ الهدف من إزالتها هو طمس الهوية الوطنية والعربية والإسلامية التي تمتاز بها مدينة القدس وفلسطين.
إِنّ قيام سلطات الاحتلال الإسرائيلي بتجريف أجزاء من مقبرة اليوسفية المحاذية للسور الشرقي للمسجد الأقصى المبارك أظهرت أجزاء من رفات الموتى وعظامهم، في مشهدٍ عدوانيّ واضح يمسّ بقدسيّة المقبرة، التي تحوي قبور الصحابة الكرام– رضي الله عنهم أجمعين- والشهداء والأموات.
لقد كانت مقبرة اليوسفية وما زالت – هي وغيرها من المواقع العربية والإسلامية في المدينة- من المعالم والشواهد التي تدلّ على عروبة مدينة القدس وإسلاميتها وقدسيّتها؛ لذلك عندما تقوم سلطات الاحتلال الإسرائيلي بإزالة أحد المعالم المُقدسة، فهي لا تقوم بذلك عبثاً إنما في إطار خُطّة مُحكمة لتهويد المدينة وتغيير وجهها الحضاري والواقع الديمغرافي والديني لها، ممّا يدل على أنّ الاحتلال الإسرائيلي يسعى إلى تغيير الواقع تمهيدًا لإقامة مشروع حديقة توراتية مكانها؛ من أجل طمس الوقائع وتزوير التاريخ العربي والإسلامي في المدينة المقدسة ، ويُعَدُّ هذا العمل إجراميًا بحقّ المقدسات، وإننا نؤكّد على أنّ المساس بالمقدسات الإسلامية هو مساسٌ بعقيدة جميع المسلمين في العالم، ويتنافى والشرائع السماوية، وكلّ القوانين والمواثيق والأعراف الدولية.
ومن خلال هذه الاعتداءات على مقدساتنا ومقابرنا فلا بُدَّ أنْ نُركِّز على بعض الأمور، ومنها:
1- ضرورة المحافظة على تاريخنا و تراثنا الإسلامي؛ لأنه رمز وجودنا وحضارتنا، ونحن هنا نُشيد بدور العلماء والمفكرين الذين يُعرِّفون الأمة الإسلامية بعقيدتهم الصحيحة وبتاريخهم المجيد ويُؤكِّدون على الرواية الإسلامية، ويدحضون الرواية الإسرائيلية المزيّفة.
2- إِنّ ديننا الإسلامي الحنيف كرَّم الإنسان حيًّا وميتاً كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ… الآية} (3)، ورسولنا الكريم – صلّى الله عليه وسلّم – أكّد على ذلك بقوله: (كَسْرُ عظمِ الميِّتِ كَكسرِه حيًّا) (4)، وقوله– صلّى الله عليه وسلّم – أيضاً: (لأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيابَهُ فَتَخْلُصَ إِلى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ) (5)، فالمَيِّت يتأَذّى مِمَّا يتأذّى منه الحيّ ، لذلك يجب علينا فضح جرائم الاحتلال التي تُخالف الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، ونحن هنا نُشيد بدور أهلنا في المدينة المقدسة، وأهلنا في الداخل الفلسطيني، والأخوة في لجنة إعمار المقابر الإسلامية بالقدس على دورهم الكبير في المحافظة على المقابر الإسلامية.
3- دَقُ ناقوس الخطر للأمتين العربية والإسلامية برفع شعار: الأقصى ومقدساتنا في فلسطين في خطر، للقيام بواجبهم في الدفاع عنها، والمحافظة عليها، والعمل على وقف هذه الاعتداءات الإجرامية عليها.
نسأل الله أن يحفظ بلادنا وقدسنا وأقصانا ومقدّساتنا من كلّ سوء وصلّى الله على سيّدنا محمد T وعلى آله وصحبه أجمعين
الهوامش:
1- أخرجه الإمام أحمد 2-سورة الإسراء الآية (1) 3- سورة الإسراء الآية (70)
4- أخرجه ابن ماجه
5- أخرجه مسلم
* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com