ما معنى هذه الآية؟ {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}(يوسف).
الشيخ محمد مكركب أبران
Oulamas.fetwa@gmail.com/
1 ـ الفتوى رقم:526
الســـــؤال
قال السائل (و.ن) سمعت أحد الوعاظ يفسر قول الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}(يوسف: 106). وقال الواعظ: بناء على هذه الآية فإن أكثر المؤمنين هم مشركون!! فاستشكل علي كلامه، وسؤالي عن معنى هذه الآية من أقوال المفسرين؟ لنرتاح ونفهم المقصود من كلام الله سبحانه وتعالى.
الجـــــــــواب
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله.
أولا: إن الآيات المحكمات التي هي مصدر الشريعة، وهي التي تهمنا، ونسأل عنها، وعن العمل بها، فإنها كلها من أول المصحف إلى آخره، بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ، لا إشكال فيها، ولا التباس. ﴿كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾.
﴿أُحْكِمَتْ آياتُهُ﴾: ومعناه جُعِلَتْ مُحْكَمَةً كُلَّهَا لَا خَلَلَ فِيهَا وَلَا بَاطِلَ، ولا لبس فيها ولا غموض. قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم:﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ﴾. قال القرطبي: {فَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ الشَّعْبِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا: الْمُحْكَمَاتُ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ مَا عُرِفَ تَأْوِيلُهُ وَفُهِمَ مَعْنَاهُ وَتَفْسِيرُهُ وَالْمُتَشَابِهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ إِلَى عِلْمِهِ سَبِيلٌ مما استأثر الله تعالى بعلمه دُونَ خَلْقِهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَذَلِكَ مِثْلُ وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَخُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَالدَّجَّالِ وَعِيسَى، وَنَحْوِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ. قُلْتُ: هَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْمُتَشَابِهِ.قال: وقَالَ النَّحَّاسُ: أَحْسَنَ مَا قِيلَ فِي الْمُحْكَمَاتِ، وَالْمُتَشَابِهَاتِ أَنَّ الْمُحْكَمَاتِ مَا كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُرْجَعَ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ، نَحْوُ:﴿ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾. ونحو قوله:﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ﴾. وَالْمُتَشَابِهَاتُ نَحْوُ:﴿إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ﴾ وَإِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾}(4/9) لو عَلَّمَ الوعاظ فقط الآيات المحكمات للناس، وفهموهم فيها أحسن الفهم، لما حدث ذلك الاختلاف المقيت بين الذين خاضوا في المتشابهات، بسبب الذين في قلوبهم زيغ يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة بين المؤمنين. والله تعالى أعلم، وهو العليم الحكيم.
ثانيا: ما معنى قول الله تعالى:﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾(يوسف: 106) أي: ما الذي نفهمه من هذه الآية؟ قال السائل:{ما معنى هذه الآية من أقوال المفسرين؟} فالسائل يريد أن نرشده إلى ما قاله المفسرون المعروفون عند جميع المسلمين، وأكتفي له بثلاثة من المفسرين.
1 ـ الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت:310) ومؤلفه:(جامع البيان عن تأويل آي القرآن). قال: {يقول تعالى ذكره: وما يُقِرُّ أكثر هؤلاء، الذين وصَفَ عز وجل صفتهم بقوله: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ﴾(يوسف:105) (لايؤمنون) بالله بأنه خالقهم ورازقهم وخالق كل شيء، (إلا وهم مشركون) في عبادتهم الأوثان والأصنام، واتخاذهم من دونه أربابًا، وزعمهم أنَّ له ولدًا، تعالى الله عما يقولون}.
2 ـ أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي. ومؤلفه:(الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل):{وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ قال:﴿وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ﴾ في إقراره بالله وبأنه خلقه وخلق السموات والأرض، إلا وهو مشرك بعبادته الوثن، وعن الحسن: هم أهل الكتاب معهم شرك وإيمان. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هم الذين يشبهون الله بخلقه}(توفي: 538ه).
3 ـ أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، ومؤلفه(الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمن من السنة وآي الفرقان):{قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ أَقَرُّوا بِاللهِ خَالِقِهِمْ وَخَالِقِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَهُمْ يعبدون الأوثان، قاله الحسن ومجاهد، وعامر الشعبي، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ هُوَ قَوْلُهُ: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾ (الزخرف: 87) ثُمَّ يَصِفُونَهُ بِغَيْرِ صِفَتِهِ وَيَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا، وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا: أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ مَعَهُمْ شِرْكٌ وَإِيمَانٌ، آمَنُوا بِاللهِ وَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يَصِحُّ إِيمَانُهُمْ}(9/272) (توفي:671ه).
ثالثا: هكذا يعلم السائل، من خلال أقوال المفسرين أن مدلول الآية الكريمة:﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾(سورة يوسف:106) أن أكثر المشركين يؤمنون بوجود الخالق الرازق، وهم مشركون بالله لأنهم يعبدون الأصنام، فموضوع الآية يخص الكافرين، وأكثر الكافرين المنكرين لوجود الخالق، عندما يؤمنون بوجود الخالق الرازق يعبدون الأصنام، ظنا منهم أنها تقربهم إلى الله، فهم بذلك مشركون، فموضوع الآية لا يخص المؤمنين، الذين آمنوا بأركان الإيمان، ويعملون بأركان الإسلام، فإن هؤلاء لا يشركون بالله شيئا. والله تعالى أعلم، وهو العليم الحكيم.