في رحاب الشريعة

ربيع الذكريات والأنوار وبيان التوصيات من خلال آيات الاعتبار

أ. محمد مكركب/

والبداية بالأساسيات التي هي جواب عن جوهر الحقائق الدينية، ومقاصد الدعوة الإسلامية، بالحوار مع النفس البشرية، في جولة كبيرة في رياض السيرة النبوية. لماذا أُرْسِل النبيُّ محمد خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام؟ وبم أرسل؟ ولمن أرسل؟ ومن هنا يكون المنطلق في التَّذَكُّر والتذكير لمن أراد الاحتفال بذكرى ميلاد البشير النذير.
لقد أرسل النبي عليه الصلاة والسلام لينذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون. أرسل ليهدي الناس إلى صراط مستقيم، ويدعوهم إلى دار السلام. ضمن هذه الحقائق الكبيرة. ليقول للعالم، إنه صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الدين الذي دعا إليه كل الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وهذه الحقيقة الدينية التي يجب أن يعلمها الناس جميعا. والحقيقة الأولى: أن النبي ما جاء بدين جديد، فالدين واحد هو ما كان عليه آدم وإدريس ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم، فالأنبياء دينهم واحد هو الإسلام، والملة واحدة هي أصول الإسلام. فلا يقال: الأديان السماوية، أو الأديان الإلهية، وإنما يقال الشرائع السماوية، أو الرسالات السماوية، والأصح نقول: الشرائع الإلهية والرسالات الإلهية، فقد تعددت الرسالات والشرائع بقدر تعدد الرسل، ولم يتعدد الدين، فآدم كان مسلما، ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد كلهم كانوا مسلمين. إنما موسى أرسل بالتوراة ليدعو إلى الإسلام، وعيسى أرسل بالإنجيل ليدعو إلى الإسلام، ولما أرسل محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن، أصبح لزاما على كل الناس أن يعملوا بشريعة القرآن.
وهذه هي الحقيقة الثانية: وهي أنه في زمننا هذا، بل ومنذ بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، سنة 13 قبل الهجرة. 610م. أصبحت الشريعة واحدة هي شريعة القرآن، كما كان الدين واحدا وسيظل واحدا لكل الناس. والإمام المتبع بحق هو خاتم النبيين، باتباع سنته. فلا صليب، ولا كنيسة، ولا ما يقوله الناس خطأ وغلطا، بقولهم اليهودية والنصرانية والصابئة، قال الله تعالى:﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (الأعراف:158).
وفي الحديث عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار](مسلم:153).
الحقيقة الثالثة: عندما نقول: إن الإمام المتبع هو محمد صلى الله عليه وسلم، وتقول: كيف نتبعه وقد توفاه الله تعالى؟ نقول: نتبع سنته، ونثبت على المحجة البيضاء التي ترك الصحابة عليها. وهذه الحقيقة تقتضي منا أن نعلم أن ما يعرف بالمذاهب الفقهية، هي مدارس فقهية للتفقه في الدين، وليست طرائق تدين. فتصور لو أنت في زمن قبل أبي حنيفة وقبل الإمام مالك، فإنك تسأل التابعين وتابع التابعين وتتعلم منهم وتقول في قلبك، وكذا لو سئلت عن العلم الذي تريده؟ لقلت: بأنك تريد أن تتعلم الدين من العلماء لتتبع الكتاب، وتقتدي بخاتم النبيين عليه الصلاة والسلام، وهذا هو الدين، يؤخذ من الكتاب والسنة، وكذلك لو كنت من تلاميذ الإمام مالك، كيف تنظر إليه؟ ستنظر إليه على أنه معلم يعلمك كيف تتبع النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يقل لك: أعلمك مذهبي لتتبعه. بل قيل له ألزم الناس باتباع كتابك الموطأ، فرفض، وقال: اتركوا الناس يتعلمون مني ومن غيري.
وفي ربيع الذكريات والأنوار، نُذَكِّرُ بهذه الحقائق الدينية لتتحد الأمة، وتخرج من غابة الخلافات، ومن فتن الهرطقات، التي نبتت في أحضان بعض الفرق باسم الدين، والدين واحد، لا يجزأ إلى مذاهب وطرائق، ولا يقسم إلى فرق وأحزاب. وفي لسان العرب: {وأهل المذهب: من يدين به. وأهل الإسلام: من يدين به. وأهل الأمر: ولاته}(لسان العرب:11/29).
والحقيقة الرابعة: أن أول ما دعي إليه الناس الإيمان. فالمسلم، يقول: دعانا الله تبارك وتعالى إلى الإيمان، فآمنا، وأمرنا أن نؤمن فآمنا، وأن نتقي الله حق تقاته، ولا نموت إلا ونحن مسلمون، والنبي عليه الصلاة والسلام علمنا الإيمان كما جاء في حديث جبريل، فآمنا بما جاءنا به، ويقول المسلم: إيماني أن الله واحد أحد لا شريك له، وأنه سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. قال الله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾(آل عمران:193)، وقال الله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ (النساء:136).
والحقيقة الخامسة: أن ندرس السيرة النبوية على أنها نماذج تطبيقية عملية في الدعوة والسياسة والجهاد وبناء المجتمع والدولة. وهذه هي المقاصد من الذكريات، ومعاني الاحتفالات، فالاحتفال ليس كما يفهمه العامة من الساذجين، وأنه الألعاب وسهرات السمر، وتبادل الفكاهات، وكما يفعلون بمنكرات الألعاب النارية والمفرقعات في ذكرى الميلاد، فمن معاني كلمة الاحتفال في اللغة العربية: يقال احتفل القوم: إِذا اجتمعوا في محفلهم لتقييم النتاج، والفرح بالانتصار، يجتمعون في مكان للقيام بعمل جماعي. واحتفل الوادي بالسيل. واحتفل الضرع باللبن. ومن معاني الاحتفال التزين، والتعبير عن الانجازات والانتصارات، وفي تاج العروس: {الاحْتِفالُ: حُسنُ القِيامِ بالأُمُورِ، عَن ابنُ دُرَيد}. فالاحتفال بالعيد والاحتفال بالمولد النبوي أو الاحتفال بمناسبة من المناسبات، هي أفراح قوامها التقييم والتقويم والحمد والشكر لله رب العالمين، مع التواصي بالحق والتواصي بالصبر.
ومما نتذكره من السيرة النبوية التحليل الرائع الذي قام به جعفر بن أبي طالب في حضرة النجاشي. وفي كلمته تلك تقييم وتقويم. قال الصحابي جعفر بن أبي طالب يشرح للنجاشي كيف فهموا الدعوة الإسلامية، فَقَالَ لَهُ:{أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، وَيَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ، فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ، وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ اللَّهِ، فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ، فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا، فَعَذَّبُونَا، وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا، لِيَرُدُّونَا إلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنْ الْخَبَائِثِ، فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَضَيَّقُوا عَلَيْنَا، وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا، خَرَجْنَا إلَى بِلَادِكَ، وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ، وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ، وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ}(السيرة لابن هشام: 1/336) تدبروا لو أن في ذكرى المولد النبوي، أو ذكرى الهجرة النبوية، كل إذاعة، إسلامية، أو قناة تلفزيونية، أو صحيفة، أو مجلة، أو خطبة جمعة، يبلغ فيها هذا الخطاب، ويحلل فيها هذا التحليل، للمسلمين تذكيرا وإيقاظا، ولغير المسلمين بيانا ودعوة، لكان ذلك بيان التوصيات لما يجب على المؤمنين والمؤمنات.﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ (التوبة:128/129).

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com