في ظــــلال السنـــة النبويـــة الشريفـــة/شـــروط ضروريـــة لتــذوق الحــــلاوة الإيمانيـــة(1)
أ.د/ مسعود فلوسي/
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلَاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ حَلَاوَةَ الإيمَانِ: أنْ يَكونَ اللَّهُ ورَسولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا سِوَاهُمَا، وأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ، وأَنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ في الكُفْرِ كما يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ».
ثلاث خصال تحقق حلاوة الإيمان
الأولى: حب المؤمن لله ورسوله أكثر من أي شيء ومن أي إنسان مهما كان، حتى وإن كان الوالدين أو النفس أو الزوج أو الأولاد.
الثانية: إذا أحب المؤمن إنسانا فهو يحبه لله فقط، وليس لأي مصلحة أو منفعة، وإذا أبغض إنسانا فهو يبغضه لله، وليس لأنه ليس له فيه فائدة أو منفعة، فهو يحب لله ويبغض لله.
الثالثة: أن يكره المؤمن أن يعود في الكفر كما يكره أن يُرمى في النار، وهل هناك من يحب أن يُرمى في النار؟
هذه الخصال الثلاثة من شعب الإيمان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن من لم تتوفر فيه هذه الخصال الثلاثة لن يجد حلاوة الإيمان، ومن توفرت فيه وجد حلاوة الإيمان.
«ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد حلاوةَ الإيمان»، ولابد من وقفة مع هذه الكلمة «حلاوة الإيمان».
ما معنى حلاوة الإيمان؟
لكل شيء تستحبه النفس حلاوة، فكل ما يُستلذ وتستطيبه النفس له حلاوة؛ الماء له حلاوة، الطعام له حلاوة، النوم له حلاوة، الزواج له حلاوة، الذرية لها حلاوة، الصيد والسياحة وكل شيء مما يستمتع به الإنسان له حلاوة وله لذة يستشعرها الإنسان، كذلك الإيمان له حلاوة.
لماذا يحب الإنسان شيئا من الأشياء؟ لأن له حلاوة في نفسه، الإيمان كذلك له حلاوة لا يستشعرها من لا تتوفر فيه هذه الخصال. والحلاوة بطبيعتها لا يمكن لأحد أن يصفها لغيره، لأنها إحساس، والإحساس لا يوصف أو يُنقل إلى الغير، فحلاوة شيء ما لا يدركها إلا من تذوق ذلك الشيء واستمتع به، فكذلك الإيمان لا يحس حلاوته إلا من أدرك حقيقته.
وحلاوة الإيمان لا تدانيها ولا تساويها ولا تماثلها ولا حتى تقاربها أي حلاوة أخرى؛ فأعظم حلاوة وألذ حلاوة هي حلاوة الإيمان، لأن الإيمان الحقيقي سكينة في النفس وراحة في القلب وانسجام مع الوجود كله.
وهذه الحلاوة تنعكس على حياة الإنسان وتظهر فيها، فتظهر في شخص الإنسان، وتظهر في معاملاته، وتظهر في طريقة تفكيره، وتظهر في طموحاته في الحياة، وفي كل شؤون حياته. ولا يدرك حلاوة الإيمان إلا من توفرت فيه خصال الإيمان.
وقد يكون الإحساس بشيء من الحلاوة الإيمانية متحققا في نفس كل مؤمن، لكن هذا الإحساس درجات، فالناس ليسوا جميعا في مرتبة واحدة من الإيمان، وإنما يتفاوتون في مراتب الإيمان، ولذلك يتفاوتون فيما يستشعرونه من حلاوته، فكل منهم يستشعر منها بقدر درجته من الإيمان، والمرجو من الله عز وجل أي لا يحرم مؤمنا من شيء من هذه اللذة والحلاوة.
حب الله ورسوله أكثر مما سواهما
أول هذه الخصال: «أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما».
بمعنى: أن يستولي حب الله عز وجل، ثم حب رسوله صلى الله عليه وسلم، على قلب الإنسان، فكل ما يتعارض مع حب الله عز وجل ومع حب رسوله صلى الله عليه وسلم، لا ينبغي للإنسان أن يحبه، بل يجب عليه أن يكرهه لأنه يتعارض مع حب الله. فكل ما هو مبغوض عند الله عز وجل، وكل ما يتسبب للإنسان في سخط الله فالمؤمن يكرهه لأن الله عز وجل يكرهه، وكل ما يحبه الله عز وجل ويرضاه من عبده ويثيبه عليه، فالمؤمن يحبه لأن الله عز وجل يحبه.
«أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما»، هذا أمر منطقي، فليس غريبا أن المؤمن يحب رب العالمين ويحب الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من غيرهما؛ أكثر من نفسه، وأكثر من والديه، وأكثر من زوجته، وأكثر من أولاده، وأكثر من ماله، وأكثر من كل شيء في هذا الوجود.
منطق العقل ومنطق الفطرة ومنطق الواقع يوجب أن يكون الله عز وجل أحب إلى الإنسان من نفسه ووالده وزوجه وولده ومن أي شيء في هذا الوجود.
لماذا؟ لأن الإنسان يحب غيره بحسب فضل هذا الغير عليه، فكلما كان هناك من يسدي له الخير أكثر كان حبه له أكثر، المنطق يقول هذا، فلا يمكن أن يكون من أسدى إليك معروفا مرة تحبه أكثر ممن يسدي إليك في كل يوم أنواعا وألوانا من المعروف.
حب الله في الدرجة الأولى
من يسدي إلى الإنسان من الخير أكثر من رب العالمين؟ من في هذا الوجود له فضل عليك أيها الإنسان أكثر من ربك عز وجل؟ من خلقك؟ من أحسن صورتك؟ من أكمل أعضاءك؟ من أكرمك بالحياة؟
من أغدق عليك نعمه حتى قبل أن تخرج إلى الدنيا وأنت في بطن أمك؟ ثم بعد أن خرجت من بطن أمك إلى هذه الدنيا، ثم وأنت تتدرج في مراحل النشأة والتربية وتكبر شيئا فشيئا حتى تصبح إنسانا عاقلا مميزا قادرا على فعل ما تريد، من يرعاك بالحفظ وبالرزق وبالستر وبالحماية طيلة حياتك؟ من يفعل ذلك غير الله عز وجل؟
الإنسان لو أراد أن يسجل نعم الله عليه، يجلس مع نفسه ويبدأ في عد هذه النعم في اليوم الواحد، سيملأ سجلا كاملا ولا ينتهي، لأنه في كل لحظة، في كل ثانية، هناك نعمة أو أكثر تحل به، بل نعم متراكمة تحيط به في كل ثانية.
ينابيع من النعم مفتوحة ومتدفقة، نِعَمٌ لا يمكن للإنسان أن يحسبها أو يحصيها.
أفيمكن للإنسان العاقل أن يتصور أن هناك من له فضل عليه أكثر من ربه عز وجل؟
الإنسان لا يحتاج إلى براهين: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}[الذاريات: 21]، لا يحتاج إلى براهين أو أدلة على أن الله عز وجل صاحب الفضل الأول وصاحب النعمة العظمى عليه، والذي يطلب الأدلة هو الإنسان الذي يجحد نعم الله عز وجل وينكر فضل الله سبحانه وتعالى عليه في هذه الدنيا.
محبة الله عز وجل، إذن، مما فُطر عليه الإنسان، فرب العالمين عز وجل عندما يخلق أي إنسان يفطره على حبه سبحانه وتعالى، لأنه محتاج إليه، أي أن الإنسان يشعر بحاجته إلى ربه عز وجل.
لماذا ينسى الإنسان نعم الله عليه؟
ما الذي يجعل الإنسان ينسى نعم الله وفضل الله وحاجته إلى الله؟
إنه التعود على النعم، التعود ينسي، تعود النعمة يُنسي مصدرها، فالإنسان عندما يتعود على نعمة تصبح بالنسبة له حقا مكتسبا، يحسب أنه هو الذي يوفر هذه النعمة لنفسه، وينسى أن هناك من يمده بهذه النعمة وبهذا الفضل. فنحن من كثرة ما تمرغنا في نعم رب العالمين، ومن كثرة ما يغدق علينا عز وجل من النعم، من استمرار هذه النعم وعدم انقطاعها نسينا مصدر هذه النعم وحسبناها حقا مكتسبا، وكأن كلا منا يقول في نفسه: ما دمت حيا وما دمت موجودا فهذه النعم حق، وهي لابد أن تأتيني دون أن أطلبها.
هذا هو الخطأ الذي يقع فيه الإنسان ويجعله يجحد نعم الله عز وجل وفضله سبحانه وتعالى عليه.
ذكر الله وشكره وسيلة لتذكر نعمه
ولكي لا ينسى الإنسان نعمة الله وفضله سبحانه وتعالى عليه، شرع لنا ربنا عز وجل أن نذكره ونشكره: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}[البقرة: 152].
ورب العالمين أنزل علينا القرآن لنذكره به، فتلاوة القرآن ذكر، وتسبيح الله عز وجل ذكر، حمد الله سبحانه وتعالى ذكر، تكبيره عز وجل ذكر، وما أكثر أنماط الذكر.
ومما يجعل الإنسان على ذكر دائم لنعم الله عز وجل عليه؛ أن يعرف أسماءه وصفاته سبحانه وتعالى، قال تعالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[الأعراف: 180] وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وتِسْعِينَ اسْمًا مِئَةً إلَّا واحِدًا، مَن أحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ» [رواه البخاري]، لأن من يحصيها يعرف رب العالمين ولا ينساه أبدا ولا يجهل قدره سبحانه وتعالى، فهذه الأسماء تتضمن كلها نعم الله عز وجل على عباده، والإنسان عندما يحفظها ويحسن التصرف في هذه الحياة في ضوء كل اسم من هذه الأسماء، تصبح حياته كلها في رحاب الله عز وجل وفي إطار ذكر الله عز وجل وفي ظل طاعة الله سبحانه وتعالى.
حب الله ليس مجرد دعوى
ما أكثر الذي يدَّعون حب الله عز وجل، كل مؤمن يقول أنا أحب الله سبحانه وتعالى، ولكن معيار الصدق في هذا الحب هو الواقع، فإذا أردت أن تعرف مدى صدقك في حبك لله عز وجل فانظر موقفك من أوامره ونواهيه في حياتك، زن نفسك بنفسك، انظر في أوامر الله عز وجل هل أنت حريص على إنفاذها في حياتك؟ هل تسعى إلى أن تعرف ما يحبه الله عز وجل لكي تفعله؟ وهل تسعى إلى أن تعرف ما لا يحبه الله حتى تبتعد عنه وتجتنبه؟ عندما تسمع قول الله تعالى: افعل كذا، هل تشعر أنه يجب عليك القيام مباشرة بإنفاذ هذا الأمر أم تبقى مترددا هل تفعل أم لا تفعل وتظل توازن بين ما يكون في ذلك من مصلحة دنيوية أو لا يكون. ونفس الأمر فيما نهى الله عز وجل عنه.
عندما تسمع النداء للصلاة وأنت مشغول بمشاغل دنيوية، هل تسارع إلى الصلاة وتترك أمور الدنيا بعد ذلك مؤملا في تيسيرها من الله عز وجل، أم تقول في نفسك: الصلاة لها وقت فلأقض أولا مشاغلي حتى لا تذهب ثم أصلي؟
هذا هو الامتحان الذي نسقط فيه عادة، فمعظم الناس يسقطون في امتحان العمل.
إن حب الله عز وجل ليس مجرد مشاعر، ولا مجرد عاطفة تشعر بها في قلبك ثم لا يكون لها تصديق في واقعك. حب الله عز وجل ينبغي أن يظهر في واقع الإنسان، وفي كل مجالات حياته.
يتبع