مقالات

فــقــه الـسـيـــرة..

عبد العزيز بن سايب/

إنّ مِمَّا يُعَزِّزُ منزلةَ سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم – في أفئدة المؤمنين ويدفعهم للاقتداء به دراسةُ سيرتِهِ، ومطالعةُ مجريات حياته، وعبادته، ومواقفه، ومعالجته للأمور.
وتكون الفائدة كاملة والعبرة شاملة إذا دَرَسَها الإنسانُ على يد عالم فطن، حسن القراءة للأحداث، عميق الفهم للمواقف، جيد الاستنباط من المشَاهِدِ، مزدان بقلبٍ مُفْعَمٍ بالمحبة، وعقل مُشْرِقِ الاطلَّاع.
في السنوات التدريسية الأولى لسيدي الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى، في جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، بقسنطينة، كان حظ طلاب الدفعة الأولى منه وافرا، فقد درَّسَهم زيادة على علومِ القرآنِ والتفسيرِ الموضوعيِّ السيرةَ النبويةَ.
لكني لما انخرطتُ في الجامعة، وكنا الدُّفْعَةَ الرابعة، لم يكن نصيبنا مع الشيخ إلا علوم القرآن في السنة الأولى.. فقط، وهي آخرُ سنةٍ للشيخ بالجزائر، فقد غادرنا بعدها.
أما الدفعة التي كانت قبلنا والتي قبلها فكان حظها مع علوم القرآن، ومحاضرات الشيخ في التفسير الموضوعي في السنة الثانية، فحسب، ولم ينعموا أيضا بدراسة السيرة على يدي شيخ الجامعة وإمامها.. فلم يُلْقِ الشيخُ فقه السيرة إلا سنةً واحدةً، لطلاب الدفعة الأولى وحدهم، في سنتهم الأولى جامعي.
وكان لتدريسهم إياها قصة وحادثة، فالأستاذ الذي كُلِّف بمادة السيرة لم يكن من أهل الاختصاص، بل تخصصُّهُ بعيدٌ جِدًّا عن العلوم الشرعية. فلما ضاق الطلاب به ذرعا ذهبوا للشيخ الغزالي، وشكوا إليهم معاناتهم مع ذلك الأستاذ وغَبْنَهم في مادة عظيمة كسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم..
فما كان من الشيخ رحمه الله تعالى إلا أن تَوَلَّى تدريسهم بنفسه تلك المادة العزيزة.. وهو صاحب التأليف فيها «فقه السيرة»، بل هو أول من ابتكر هذا العنوان..
وفي أول محاضرة له في السيرة.. بعد الاستفتاح بالبسملة.. قال: «.. وأنا قادم إليكم.. وصاعد إلى قاعة المحاضرات.. قُلْتُ في نفسي.. ما أقول لهؤلاء الطلاب.. ثم من أنا حتى أتكلم عن سيد الأولين والآخرين.. سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم..».
وبَدَأَ التأثرُ يأخذ منه كل مأخذ.. فتوقف بُرهة، وأطرق، ثم فاضت عيناه بالدموع، وأجهش بالبكاء..
وهكذا الشيخ الغزالي.. رقيب القلب، سريعُ العَبْرَةِ، قويُّ التَّأَثُّرِ، بالغُ الحب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -، شديدُ العاطفة نحوه..
لقد أنعم الله الكريم على أولئك الثلة من الطلاب بتلك الساعات مع سيدي الشيخ الغزالي.. وكانت المحاضرة مسائية.. من الرابعة إلى السادسة.. كان الجو رائعا حقا.. هدوء المساء.. مع التدريس الماتع للشيخ..
وفي أيام الشتاء كانت تُدركهم صلاة المغرب، فكان الشيخ يخرج إلى الرَّدهة على يسار قاعة المحاضرات «مالك بن نبي»، حيث كانت مفروشةً للصلاة، قبل تعمير مصلى الجامعة وافتتاح جامع الأمير عبد القادر..
فَيَؤُمُّ طلابه في صلاة المغرب.. وكان الشيخ يترنم في صلاته وتلاوته، فيَخْشَعُ ويُخَشِّعُ.. كانت لحظات تقطر بالهناء وتنضح بالسعادة.. ومن صلى وراء الشيخ الغزالي وسمع قراءته لا يملك إلا أن يغبط أولئك الطلاب على تلك المكْرُمَة..
هنيئا لطلبة الدفعة الأولى دراستهم فقه سيرة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم – على يدي سيدي الشيخ الغزالي..
ولئنْ فاتتنا دراسة فصولها على يدي الشيخ مباشرة فعزاؤنا في سماع بعض تأملاته فيها، وقراءة ما جاد به قلمه وشاع من عاطفته ونظرات عقله المبثوثة في كتابه الحافل «فقه السيرة».
ولئن فاتتنا الاستضاءة بفقه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على لسان سيدي الشيخ الغزالي.. لكننا شعرنا بمحبته العميقة وتقديره العظيم وإعجابه السامي والخدمة المتفانية والاقتباس المستمر من صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم.
وكم كانت عبارة «صاحب الرسالة» تَفْعَلُ فِعْلَها فينا لما نسمعها على لسان سيدي الشيخ الغزالي ومن فمه رحمه الله تعالى..
لكن لماذا قال هذه الكلمات.. وما الذي حَمَلَهُ على تلك الدَّفْقَة من العاطفة التي أَسْلَمَتْهُ إلى الإجهاش بهاتيك الدموع الغوالي.. ربما يُفَسِّرُها ويشرحها كلماتُهُ في كتابه «فقه السيرة»، وهو يُبَيِّنُ مواقعَ أقدامه من رسوله، ويُصَوِّرُ الحالة التي كانت تَلُفُّهُ وهو يكتب فصول سيرة حبيبه صلى الله عليه وسلم: «.. إنني أكتبُ في السيرة كما يَكتبُ جُنديٌّ عن قائده، أو تابعٌ عن سيده، أو تلميذٌ عن أستاذه، ولستُ- كما قُلْتُ- مؤرّخًا مُحَايدا مَبْتُوتَ الصِّلَةِ بمن يَكتبُ عنه.
بَدَأْتُ أَكْتُبُ هذه الصحائف وأنا في المدينة المنورة، في الجوارِ الطيِّبِ الذي سُعِدْتُ به حينا، وأَعَانني على إتمام دراسات جيدة في السنّة المطهرة والسيرة العطرة.
إنني أعتذر عن تقصيري في إيفاء هذا الموضوع حقّه؛ فشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبيرٌ، والإبانةُ عن سيرته تَحتاجُ إلى نَفْسٍ أَرَقّ، وذكاء أنفذ. وحسبي أن ذاك جهدي اهـ.
كذلك بعد سياحة عميقة ممتعة نفسية في كتابه المبتَكَر «فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء» يختمه بهذه الجمل التي تنضح بشعور القصور والتقصير تجاه «صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم».. قال رحمه الله تعالى: «.. في شبابي كتبتُ «فقه السيرة» وحسبتُ أني أتيتُ بشيء طائل في الإبانة عن عظمة محمد صلى الله عليه وسلم.. ثم عرفتُ ـ بعدُ ـ أن محاولتي كانت محدودة، وإن كانت ـ بستر الله ـ غير مردودة..
لكن العاطفة الحارة لا تستر البصر الكليل، والهمة القاصرة. لذلك انتهيتُ من الكتابة وقد استولى عليَّ الشعور بالنقص، ثم قلتُ: جهد المقل، ولعل غيري يتم ما بدأتُ..»اهـ.
انظر إلى الشُّعُورِ الخَجِلِ بالتقصير نحو رسوله صلى الله عليه وسلم في الوفاء بحقوق الكتابة عنه، واعترافه الصادق بالقصور عن الاقتدار على اكتناه حقائق السيرة أو بلوغ عمق فقهها وأبعادِ عِظَاتِهَا..
نعم.. هذا هو الشيخ رحمه الله تعالى.. وهكذا القلوب المحبة، والنظرات المتأثرة، والنفوس المزكاة، واللهجات الصادقة، والأرواح المتواضعة، وكيف يكونون أمام خاتم النبيين وسيد ولد آدم..
هذا الشعور يُسَيْطِرُ على الإنسان من الاطلاع على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجعل له منظارا لنفسه وللآخرين، فلا تَطاول، ولا تسامي، ومن ثمة لا احتقار للغير، ولا استصغار أو تعالٍ، فالكل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في دائرة القصور والتقصير.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com