على هامش مالك بن نبي
يكتبه د. محمّد قماري/
الأسبوع الماضي كلمت الأستاذ عمار طالبي، وتفرع بنا الحديث في قضايا شتى منها ذكرياته في القاهرة، ولعل من المحطات المهمة من حياة الأستاذ عمار في القاهرة، تلك الصحبة أو المرافقة لمالك بن نبي، رحمه الله، ولأن الحديث يجر بعضه ذكرت له المرحوم محمود شاكر، وقال الأستاذ عمار انه لم يلتقيه، ولكنه يذكر أنه كتب مقدمة للطبعة العربيّة لكتاب (الظاهرة القرآنية) وهو أول كتب الأستاذ مالك بن نبي، وهي، كما قال، مقدمة طويلة جدا، أحدثت شيئا من الضجر عند المؤلف!
قلت للأستاذ عمار أعرف ذلك، ولقد قرأت ضجر بن نبي منها، لأنها أخذت ملزمة كاملة من الكتاب، واستوقفني الأستاذ متعجبًا: أين ذكر بن نبي هذه القصة؟ وأخبرته أنني قرأتها في (يومياته) التي نشرت بالفرنسيّة، فأردف يقول: كان بن نبي يتأسف كثيرا من هذه الاستطالات، ويقول أن العرب لم يتخلصوا من (الثقافة اللفظية)…
هذه القصة وغيرها كثير هو ما قصدت إليه من اختيار هذا العنوان، فإذا كان (متن) بن نبي الشاخص في فكره المبثوث في كتبه، قد اطلع عليه الناس، فإن (الهامش) يعين الدارس لذلك الفكر في معرفة الخلفيات المؤسسة له، ويطلع على المخبر النفسي والاجتماعي الذي عاش فيه بن نبي وهو يفكر ويكتب…
لقد كان الرجل (مزعجًا) في حياته لكثير ممن رافقوه، بل ذهب بعضهم إلى اتهامه بـ(الجنون)، وكذبوا وهم صادقون أو صدقوا وهم كاذبون، لأن أبرز تجليات الجنون هو الخروج عن (المألوف)، ولم يكن بن نبي رجلاً من سائر الناس، لقد كان (ظاهرة) حقيقية في سياق مكني وزماني يصعب أن ينبعث فيه رجلٌ في عمقه الفكري…
ففي (الهامش) الفكري لبن نبي، نقرأ أنه تعلم الاقتصاد في الكتابة، بحيث لا يضيف لفظا زائدا في جملة، ولا جملة زائدة في فقرة، ولا فقرة زائدة في نص، يستقر في ذهنه أنه على صورته المقتصدة يؤدي المعنى، تعلم ذلك من شح موارده المالية، فتدرب على اقتصاد الورق، والحقيقة أن هذا التفسير يبدو مبتسرًا، لأن ذلك الاقتصاد هو البناء المعماري المنهجي في الكتابة، فهو تعلمه من طبيعة أفكاره نفسها التي يعرضها، وأعانه عليه دراسته للهندسة حيث كل خط زائد في التصميم له نتائجه الوخيمة.
وهذا الذي جعله ينكر (الثقافة اللفظيّة) ويتبرم بها، ولقد وجدناه في كتابه الثاني (شروط النهضة) يرسم المحنيات ويضبط المعادلات، إذ طبيعة عمل المهندس تسوقه نحو الهدف من أقصر طريق قصد تحقيق (الوظيفة)، وهكذا تحدث بن نبي عن (الزمن) وعن (الذوق الجمالي) وعن (الثقافة) كلها ضمن رؤيته (للمنطق العملي).
وبذات الرؤية توجه بن نبي إلى التراث، رجع إليه بوصفه محطات على محور الزمن، يتشكل منها اجتهاد الأمة الإسلامية، حيث أصابت في محطات فارتقت، وتعثرت في أخرى فخملت، وهو في تلك العودة المبصرة الموضوعية، لا يعادي التراث لأنه قديم، ولا يبرر لعثراته لأنه (سلف) معصوم، فهي محطات قد مضت والرجوع إليها إنما يكون بقصد معرفة (الأمراض الحضارية) التي تدحرجت مع خط الزمن، وما تزال تنخر في عقول المسلمين ووجدانهم.
لقد لمح بن نبي مثلاً ذلك الكسر الذي حدث في أعقاب (معركة صفين)، إذ القضية في زمننا الراهن تتعدى الانحياز العاطفي لـ(علي) رضي الله عنه أو التبرير لـ(معاوية)، هي قضية كسر في مؤسسة الامامة الكبرى، وانتقالها من (خلافة راشدة) بنيت على الشورى، وممارسة الأمة حقها في اختيار من يحكمها إلى (ملك عضوض) يحسم فيه أمر الحاكم فرضًا، ويتحوّل من موظف عند الأمة إلى سيد عليها دون رأيها!
وبذات الرؤية الثاقبة لمح بن نبي على خط الزمن، بوادر انبعاث مع حركة يوسف بن تاشفين بعد ذلك بقرون كثيرة، ومع اختلاف الملابسات والسياق التاريخي، وكل ذلك التعليل والفكر المنهجي نجد له في الهامش ما يفسره، فالصدمة الاستعمارية كانت بسبب نوم المسلمين ووقوعهم تحت شروط (القابلية للاستعمار)، وهي التي أخرجت آل بن نبي من قسنطينة، وأجبرته هو نفسه أن يغادر تبسة بعد ذلك إلى باريس، تاركًا وراءه أسرته وجيرانه وأبناء وطنه في جهل وتخلف وجوع…
وفي الهامش أيضا، تلك الآلة الجهنمية التي تعمل على زرع مركبات النقص، والشعور بالدونيّة لدى (الشعوب المستعمرة)، هنا وراء جدران الثكنة حيث ينتظر الأطفال في تبسة، فضلات مأكولات الجنود، وهناك في باريس حيث يحاصر شباب جزائري من نيل شهاداتهم الجامعية، وبين هذا وذاك القضاء على كل محاولات بث اليقظة والوعي في مجتمع شبه مخدر!