أدب الخـــلاف في الإسـلام

د. يوسف جمعة سلامة*/
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}(1) .
جاء في كتاب صفوة التفاسير للصابوني في تفسير هذه الآية: [{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} أي ومن آياته العظيمة الدالة على كمال قُدرته خلق السموات في ارتفاعها واتساعها، وخلق الأرض في كثافتها وانخفاضها، واختلاف اللغات من عربيةٍ وعجمية، وتركية، ورومية، واختلاف الألوان من أبيض وأسود وأحمر، حتى لا يشتبه شخص بشخص، ولا إنسان بإنسان، مع أنهم جميعاً من ذريّة آدم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}أي لِمَن كان من ذوي العلم والفهم والبصيرة](2).
إِنَّ الاختلاف سُنَّة ربانية ومظهر للتنوع، فالناس يختلفون في ألوانهم وأشكالهم وقبائلهم ومُيولهم وعقولهم وفي كلّ شيء، وليس مِن ضَرَرٍ في وجوده، لكنّ الضَّرَرَ كلّه أن تَتَّسع مساحات الخلاف وتنعدم لغة الحوار والتفاهم بين الناس، ومن هنا كانت الحاجة ماسَّة إلى جمع الكلمة ووحدة الصّف والتعايش الوطني وتلاقي الإرادة.
والخلاف موجود في كلّ المجتمعات، ولكن لا بُدَّ أن يُحَاط بأدب الخلاف الذي التزمه جيل الصحابة والتابعين – رضي الله عنهم أجمعين – وَمَنْ بعدهم مِنَ الأجيال الصالحة.
خُـلُق الرسول – صلّى الله عليه وسلّم – مع معارضيه
ما أجمل خُلُق الرسول – صلّى الله عليه وسلّم – مع معارضيه!، فقد جاء في كتاب السيرة النبويّة لابن هشام ما دار بين عُتبة بن ربيعة وبين رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم -، (فهذا عُتبة تُرسله قريش مُفاوضاً وعارضاً على الرسول – صلّى الله عليه وسلّم – المال والسّيادة والمُلك والعلاج إِنْ كان به مرض أو مَسٌّ من الجِنّ، وكان – صلّى الله عليه وسلّم – يُصْغِي إليه دون مقاطعة، حتى إذا ما انتهى من كلامه الذي يعرف الرسول – صلّى الله عليه وسلّم – أنه كلام باطل، ولكنه أدب الاختلاف الذي التزمه، ليسمع للرأي الآخر دون مُقاطعة، قال له: «يا أبا الوليد أفرغتَ من كلامك؟، فقال: نعم، قال: فاسمعْ مني، قال: أفعل، وأخذ – صلّى الله عليه وسلّم- يُرتّل عليه آيات من القرآن الكريم من أوائل سورة فُصّلَت، حتى ذهب إلى قومه بغير الوجه الذي جاء به»)(3).
ما أحوجنا في هذا الزمان وفي كلّ زمان ومكان أن نرتقي إلى أدب النّبوّة الذي أصل قواعده في هذا الدين العظيم، إذا كنّا نُريد حقًّا الوصول إلى الحقّ، فعلينا ترك عبادة الذّات، وطرح الأحقاد التي تُفسد كلّ شيء، وترك الأضغان التي لا تُهلك إلا أصحابها، فهذه الأمراض من أخطر الأمراض على الفرد والمجتمع.
يتراشقون … ولكنْ بالزهور
لقد كان في أصحاب النبي – صلّى الله عليه وسلّم – أسوة حسنة في سعَةِ الصّدر للخلاف، على أساس مِنْ صفاء القلب، وعفّة اللسان، وصون الكرامة.
لقد اختلف الصّحابة – رضي الله عنهم أجمعين – في بعض الأمور، لكنهم كانوا يتراشقون بالزهور، فقد(ذكر أبو الليث السَّمَرقندي عن جرير أَنَّ عثمان بن عفّان- رضي الله عنه- كان بينه وبين عبد الرحمن بن عوف– رضي الله عنهما – كلام، فقال له عبد الرحمن بن عوف-رضي الله عنه-: أَتَسُبُّني وقد شهدتُ بَدْراً ولم تَشهَد، وقد بايعتُ تحت الشجرة ولم تُبايع، وقدْ كُنْتَ تَوَلَّى مع مَنْ تَولَّى يوم الجَمْع، يعني يوم أُحُد؟، فردَّ عليه عثمان، فقال: أمّا قولك: أنا شهدتُ بدراً ولم تشهد، فإني لم أَغِبْ عن شيء شهده رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم-، إلا أنَّ بنت رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – كانت مريضةً وكنتُ معها أُمَرِّضها، فضرب لي رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – سَهْماً في سهام المسلمين، وأمّا بيعة الشّجرة فإنّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم– بعثني رَبيئَةً على المشركين بمكة- الرّبيئَةُ هو الناظر- فضرب رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم- يمينه على شماله، فقال: «هذه لِعُثمان» فيمين رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم- وشماله خيرٌ لي مِنْ يميني وشمالي، وأمّا يوم الجَمْع فقال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ} فكنتُ فيمن عفا الله عنهم ، فحجّ عثمانُ عبدَ الرحمن) (4).
عندما نقرأ هذا الحوار الجميل بين صحابيين جليلين من العشرة المُبشرين بالجنة، فإننا نجد أنّ هذا الحوار لم يُفْسد لِلْودّ قضية، لأنّ خلافهم ليس من أجل الدنيا، بل إنه يستهدف دائماً نُصرة الحقّ، فكان أدبهما معاً سبيلاً إلى الحقّ في موضوع النقاش، وتبقى حاجة المسلمين في هذه الأيام مُتَجدّدة إلى مثل هذا الحوار المبارك، والذي تُواجه فيه الفكرة… الفكرة، حيث يُسْفر هذا الحوار في النهاية عن انتصار الحقّ ووحدة الأمة الإسلامية.
إِنّنا في حاجة إلى فقه الخلاف والاختلاف، كيف نختلف ولا نتفرّق بحيث لا يُؤدي هذا إلى العَداوة، نحن في حاجة إلى هذه القاعدة الذهبية التي تقول: «نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه».
وحدة المسلمين فريضة
لقد ذكر أستاذنا الشيخ / محمد الغزالي- رحمه الله- في كتابه خُلق المسلم أنّ المصلين اختلفوا في صلاة التراويح، هل هي ثماني ركعات أم عشرون ركعة؟ فقال بعضهم: بأنها ثماني ركعات، وقال آخرون: بأنها عشرون ركعة، وتعصَّب كل فريق لرأيه، وكادت أن تحدث فتنة، ثم اتفق الجميع على أن يستفتوا عالماً في هذه القضية، فسألوه عن رأيه في الأمر، فنظر الشيخ بذكائه فعرف ما في نفوسهم، وهو أنّ كلّ طرف يُريد كلمة منه، فقال الشيخ مُستعيناً بفقهه: الرأي أن يُغلق المسجد بعد صلاة العشاء (الفريضة) فلا تُصلى فيه تراويح البته، قالوا: ولماذا أيها الشيخ؟!.
قال: لأنّ صلاة التراويح نافلة (سنة) ووحدة المسلمين فريضة،فلا بارك الله في سُنَّة هدمت فريضة.
نعم، فديننا الإسلامي يَحُثُّّنا على الوحدة خصوصًا في هذه الأوقات العصيبة من حياة أمتنا.
إِنّ وحدة المسلمين وتضامنهم عمل يُمثل قطب الرّحى، ويمثل طوق النجاة لسفينة المسلمين، فالمسلمون لن ترتفع لهم راية ولن يستقيم لهم أمرٌ ما لم يكونوا متضامنين مجتمعين على كلمة واحدة، فقد جاء الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- على أمة ممزقة مبعثرة فجمعها وَوَحَّد كلمتها،ثم جمع العرب على اختلاف أوطانهم وجعلهم أمّة واحدة بعد أن كانت الحروب مستعرة بينهم، وصهرهم جميعاً في بوتقة الإسلام.
الكلمة الطيبة صدقة
من المعلوم أنّ المنهج الإسلامي واضحٌ لمن أراد أن يُصلح؛ وذلك بالنصيحة كما جاء في الحديث الشريف: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلنا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ، وَلكِتَابِهِ، وَلرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ)(5)، وتكون النصيحة بالكلمة الطيبة المُؤثرة كما جاء في قوله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}(6)، ولهذا لمّا جاء أحد الوعّاظ إلى الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، فدخل على مجلسه فأغلظ عليه القول، فقال له: يا هذا، إنَّ الله أرسل مَنْ هو خيرٌ منك إلى مَنْ هو شرٌ مني، فقال سبحانه وتعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}، وَمِمَّا يُروى عن الإمام الشافعي – رحمه الله- قوله:
تَعَمَّدني بِنُصْحِكَ في انْفِرَادِي وَجَنِّبني النصيحة َ في الجماعةْ
فَإِنَّ النُّصْـــحَ بَيْـــنَ النَّاسِ نَوْعٌ من التوبيخِ لا أرضى استماعـــه
فَإنْ خَالَفْتنِــــي وَعَصَيْتَ قَوْلِـــي فَـــلاَ تَجْـــزَعْ إذَا لَــمْ تُعْطَ طَاعَه
وقد ذكرت كُتب السيرة والتاريخ أنّ الحسن والحسين -رضي الله عنهما – شاهداً – في صِبَاهُمَا – شيخاً لا يُحسن الوضوء، ومنعهما الحياء أن يُنكرا عليه، فزعما له أنّ بينهما خلافاً، أيُّهما أحسن وضوءاً من الآخر، وأنهما ارتضياه حَكَماً، فتوضآ أمامه، فلم يلبث الرجل أنْ أدرك أنّ وضوءهما حسن، وأنه هو الذي لا يُحسن الوضوء، ثم قام فتوضأ.
أخي القارئ: إننا في حاجة إلى فقه الخلاف والاختلاف، كيف نختلف ولا نتفرق بحيث لا يُؤَدّي هذا إلى العداوة، نحن في حاجة إلى هذه القاعدة الذهبية التي تقول: «نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه».
وصلّى الله على سيِّدنا محمد T وعلى آله وأصحابه أجمعين
الهوامش:
1- سورة الروم الآية (22) 2- صفوة التفاسير للصابوني 2/476 3- السيرة النبوية لابن هشام 1/293-294
4- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي المجلد الثاني 4/244
5- أخرجه مسلم
6- سورة طه الآية (44)
* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com