مقاربات

مـــاء وســراب فــي أعالــي جرجـرة

أ. عز الدين مصطفى جلولي*

إنهم أمازيغ عربهم الإسلام، كما قال عنهم الإمام الصنهاجي ابن باديس رحمه الله وهو واحد منهم، كلمة خالدة صهرت في مفهومها كل أطياف المجتمع الجزائري وغيره من مجتمعات مغربية. فلم يصف عرق بدمه بعدما اختلطت الأنساب وتلاقحت القبائل العاربة منها والمستعربة، إلا في ما ندر، وما ندر قليل وغير باد.
هم قوم ممن خلق الله، اشتهروا بالشدة والبأس وطيبة القلب، عبر التاريخ، كما عرفوا بنزوعهم الشديد نحو التحرر من كل سلطة تكون من غير طينتهم، وأحيانا يتجاوزون الحد إن استفردوا بالحكم، في دورة من دورات الزمن، فيطالب بعضهم بالتحرر من بعض؛ لذلكم قلما يستقر لهم أمر إن هم حكموا أو إن هم دانوا بالولاء لحاكم، إلا ما كان بقوة قاهرة أو سلطان له دين قوي.
منطقة «زواوة»، هي ولايات بجاية وتيزي وزو والبويرة حاليا، سميت كذلك لكثرة زواياها، العامرة بالتعليم الديني الحافلة بالحياة الروحية، كان لها إسهام جليل ولا يزال في حفظ الإسلام بتلك الديار، ودور بارز في بعث المقاومين ضد الغزاة عبر القرون، من أمثال الشيخين الحداد والمقراني، وأمثال السيدة لالا فاطمة نسومر. ولفرط قداسة زواوة في النفوس، كان يتبرك ببجاية فلا يدخلها الزائرون إلا متوضئين، ولا يزال «بئر السلام» بمدخل بجاية الجنوبي شاهدا على تلك الحقبة الوضاءة من التاريخ.
لقد أطرت الزوايا المجتمع القبائلي سياسيا واجتماعيا وثقافيا عدا في المراحل الأخيرة، حين انزوت على نفسها لتحفيظ القرآن الكريم وتدريس علومه، تاركة الشأن العام للسلطة المستجدة بعد الاستقلال رضوخا تحت الأمر الواقع، وإفساحا للمجال أمام أحزاب سياسية ناشئة تحمل أيديولوجيات علمانية غربية، وحركات شعبوية، تنشط في السر والعلن مناهضة للإسلام والعربية. من هنا بدأت فعليا الفتنة التي تعيشها الجزائر في هذه الأيام، وإن كانت بذورها مزروعة في عقول كثيرين من أبناء المنطقة إبان الاحتلال الفرنسي للجزائر.
لقد نقم -عموم أهلنا في بلاد القبائل – من السلطة وسائر الشعب الجزائري أمورا، وجد فيها خصوم الأمس من مستعمرين ومن شايعهم من أبناء جلدتنا، وهم قلة قليلة لها نفوذ داخلي في دواليب الحكم وسند خارجي من أوروبا_ فرصة سانحة ليستثمروا بمشاريع مشبوهة لا خير للجزائر يرجّى من ورائها غير فتنة عمياء، تحمل في جرابها كل صنوف الشر الممزق للدول كالعنصرية والكراهية والاقتتال والانفصال. إن ما نقموه من غيرهم هو عين ما وقعوا فيه، وتلكم هي سخرية الأقدار حقا.
ها نحن نرى تلك الأحزاب والحركات المتطفلة على الحياة العامة للجزائريين تستفرد بمنطقة زواوة، وتتخذ منها رهينة في كل استحقاق سياسي أو مناسبة وطنية؛ فتهيأت بذلك ظروف «مثالية» لكل داع يدعو بدعوته حتى وإن كانت دعوة مشبوهة هدامة، بعدما كانت بلاد القبائل منيعة مهيبة؛ كما نقموا من سائر شعبهم مهادنة القيادة المستبدة في البلاد، والاستنكاف عن ممانعة الخيارات التي فرضتها على الجزائريين، في الوقت الذي يقاطع فيه القبائل الانتخابات قصدا أو إيحاء، ويحتجون في تظاهرات، لا تكاد تهدأ، على الأوضاع، ناهيكم عن جرأتهم المحمومة في الحيلولة دون دخول المسؤولين السياسيين المدججين بالمرافقة الأمنية إلى المنطقة مهما علا شأنهم أو ثقل وزنهم.
بيد أن ذلك العنفوان لم يحل بين العقل القبائلي وبين مداهنته المستعمر الفرنسي بعد جلائه، فكثرت الهجرة من بلاد القبائل نحو فرنسا بعد الاستقلال بدوافع اقتصادية، ثم توالت الهجرات عبر الأجيال لغايات معيشية وأخرى سياسية لها صلة بالبعثات التبشيرية، واستفحلت ظاهرة الزواج من الأوروبيات أثمرت خلفا يحمل ثقافتين متباينتين إلا في النظرة إلى الآخر ممثلا في العرب. وجرت على ألسنة أهلنا في المنطقة لغة «فولتير»، وربما فضلوها على العربية التي درجت على ألسنة أجدادهم الذين احتضنوها ونشروها وكتبوا الأمازيغية بها. كما اقتفى هؤلاء، بغير علم، ركب من بدل أبجدية التيفيناغ بالحرف اللاتيني، بإشراف الأكاديمية البربرية التي أنشأتها فرنسا بباريس سنة 1967م، غير مبالين بخطر ذلك على الثقافة الأمازيغية بأطيافها المتعددة الشاوية والترقية والشلحية والميزابية، وتأثيرها المدمر من بعد ذلك على وحدة الأمة الجزائرية.
كان للسياسة التي نهجتها السلطة في إدارة البلاد عواقب وخيمة، لم تظهر أعراضها على دولة فتية أطلت بزهو أحمق على العالم بعد حرب تحريرية انتصرت فيها شكليا، زهو أسكر حكامها عن اتقاء داء الأمم القاتل، داء أخذ يستشري في جسد دولة حديثة على مهل، كلما طال بها الزمن هرمت وظهر عليها الداء أكثر واستفحل. ولقد وجدتني مشدوها أو أكاد، يوم أديت صلاة الجمعة، قبل سنوات، في إحدى المداشر الواقعة في أعالي جرجرة، بين بجاية وتيزي وزو، كان الجمع في المسجد لا يتعدى خمسة عشر نفرا أغلبهم كان في سن الشيخوخة. لقد أفزعني الخطيب- الذي بدا من لهجته أنه من الغرب الجزائري- وهو يشكو إلى المصلين حال مكبر الصوت في مسجده، ما باله يتعطل كل خميس مساء، ثم يعاود العمل في السبت صباحا، أمر عجيب بات يتكرر في كل أسبوع! كان الإمام يشير إلى أيد خفية، لم يجرؤ على تسميتها، تعمل في الظلام، ولا ترغب أن تطرق الموعظة أسماع من يقطن في القرية الجبلية الوادعة، لحاجة في نفوس هؤلاء المشبوهين.
ولقد رأيتني أعاود زيارة هذه القرية بعد فترة من الزمن، وتوجهت إلى المسجد نفسه لأداء صلاة الجمعة، فراعني أن المسجد مغلق وقت الصلاة، لأن نصاب العدد قل عن اثني عشر فردا كما ذكر لي، على استحياء، بعض من مر بي وأنا جالس على درج المسجد أنتظر أن يفتح لي الباب. لم يأت أحد من أهل الدشرة لأداء الفريضة يومذاك رغم جلوس بعضهم متكئا على جدران المسجد، إلا شيخا هرما جاء، بعد انقضاء وقت الصلاة، يتوكأ على عصاه عجلا، يسألني بالقبائلية عن ميضأة المسجد إن كانت مفتوحة ليقضي حاجته فيها!
للقبائل قابلية للصلاح أو للطلاح على حد سواء، كالإناء الذي ينضح بما فيه، وفي كلا الحالين تعمل فيهم اليد الخارجية عملها إن خيرا فخير، أو شرا فشر. ربما كانت لهذه الطباع مفاعيل من العزة أو الهوان، فكما تدين تدان؛ فعقب الفتح الإسلامي لشمال إفريقية نفر طارق بن زياد بالبربر إلى الأندلس فاتحين، فكان ذلك المجد الخالد سمة غراء في تاريخ الدنيا كلها. ولما نادى منادي الجهاد ألا هبوا لتحرير الجزائر قدم البربر على مذبح الحرية دماء غزيرة لونت وادي الصومام سبع سنين عجاف؛ ولما استدار الزمان بأهله ألفيت من أحفاد أولئك الأبطال من بات يمالئ، ولو بصمت، المتنكبين عن ثوابت الأمة الجزائرية، من الشعبويين الجدد في بلاد القبائل، غير مكترث بآثار ذلك على حياته وتاريخه؛ حياة كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها من كل مكان، وتاريخ زاخر بالأمجاد، سطره عباد آمنوا بالله والرسول وتعربوا بالإسلام.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com