مدينــة عنابـــة بمنــاسبــــة مـــرور ثــلاثين قــرنــا علــى تأسـيـسـهـا “مقاربـة تاريخيــــة ثقافيــــة اجتماعــيــــــة”

أ. د. محمد عيلان
إضــاءة:
تأتي أهمية دراسة مدينة هبون/ بونة (عنابة) من كونها:
1 ـ أقدم مدن البحر الأبيض المتوسط في ضفته الجنوبية.
2 ـ ملتقى ثقافات عديدة كغيرها من مدن سواحل المتوسط، وهذه الثقافات كان لها حضورها عبر التاريخ في المدن المتوسطية، ومازالت مترسبة على مستويات عديدة. فقد كانت مدينة عنابة مثلها مثل غيرها من مدن البحر الأبيض المتوسط في ضفتيه الشمالية والجنوبية؛ الأرض الخصبة للتفاعل الثقافي والتلاقح الفكري، بلغ درجة شمل فيها كل الفئات والطبقات الاجتماعية والثقافية والسياسية، يتجلى ذلك في الأعمال والإبداعات والمنجزات التي عرفتها المدينة. فعن طريقها كانت شعوب حضارات عديدة على تماس تجاري واقتصادي. ومن مدينة (عنابة) تلقت الأمم الأوروبيه إشعاع (مدرسة لاهوتية)، كانت قد نمت وترعرعت فيها ثم سادت أوروبا والعالم المسيحي في مختلف أصقاع الدنيا، وتَسمَّت عصور تاريخية وفكرية باسمها وباسم مؤسسها القديس أوغسطين.
من هنا فإن دراسة تاريخ وثقافة (عنابة*) لا يتم بمعزل عن التاريخ أو الثقافات التي عرفتها الحضارات التي نشأت على ضفاف البحر الأبيض المتوسط: كالبونيقية، والفينيقية، واليونانية، والرومانية، والعربية الإسلامية، والأوروبية الحديثة.. وهو أمر لا جدال فيه، وناكر هذا التلاقح الثقافي الذي تجسده ممارسات وسلوكات وإبداعات المجتمعات المنتشرة على ضفاف المتوسط، يمكنه أن يراجع التاريخ، ولا أدل على ذلك؛ ما نجده في التعايش الاجتماعي والثقافي الذي عرفته المدينة دون غيرها من مدن المتوسط، إذ لم يحدث عبر تاريخها نزاع بين الأديان والطوائف، ولا بين الجاليات المقيمة بالمدينة، أو بين سكانها والوافدين إليها، ماعدا ما عرف بالخلاف المذهبي في الديانة المسيحية كما سنذكر، بل إن المدينة عبر تاريخها ظلت مدينة نموذجية في الاستقرار والتعايش السلمي الآمن.
الأمر الذي جعلها تعرف ازدهارا حضاريا (عبر تاريخها الذي تجاوز ثلاثة آلاف سنة) بحكم موقعها الاستراتيجي الهام في الشمال الإفريقي، فهي واسطة عقده، تبدو شامخة متربعة على حافة سهل خصب قلما توفر لغيرها من المدن البحرية، بالإضافة إلى موقع الحضارات منها: الامازيغية، الفينيقية، الفرعونية، اليونانية، والرومانية والعربية الإسلامية، والأسماء التي أطلقت على المدينة تدل على ذلك التداول الحضاري الذي عرفته.
فقد ذكرت المراجع أنها من تأسيس الفينيقيين، خلال القرن الثاني عشر قبل الميلاد، واسمها مشتق من كلمة: (إبُّونْ) (UBBON) بالفينيقية، بمعنى المكان الخفي، أو الخليج، وأن اسم (إبُّون) دخله التحريف على يد اليونان والرومان فأصبح: هيبون. (HIPPON) .
وقيل إنها من تأسيس (القرطاجنيين) في القرن السادس قبل الميلاد، وهو رأي ضعيف يراعي الفترة التي سيطرت فيه قرطاجة على السواحل الإفريقية.
ويرى الدكتور شنيتي أنها تندرج ضمن الإسكالات أو المحطات البحرية التي أنشأها الفينيقيون على شواطئ شمال إفريقيا ابتداء من القرن الثاني عشر قبل الميلاد. أما الرأي الذي يرى بأن مؤسس (هيبون) هم الكريتيون، (نسبة إلى جزيرة كريت) خلال الألف الثانية قبل الميلاد فإنه يحتاج إلى توثيق.
وأما في الفترة الإسلامية فقد سميت: (بونة)، حيث حَرَّف العرب الاسم من (هيبون) إلى (بونة) أوائل القرن الثامن الميلادي أواخر القرن الأول الهجري، ثم سماها بعد ذلك الهلاليون في القرن السادس الهجري (عُنَّابة) بضم العين لوجود شجر العُنَّاب بها بكثرة .
وتروي بعض المراجع أن (عنابة) عرفت من قديم، وأن ما عثر عليه من آثار في منطقة (رأس الحمراء)، وربى (بوحمرة)، وجبل (الهيدوغ/الإيدوغ)، تؤكد أن عمرها يمتد إلى الماضي السحيق، وأنها عرفت الحياة البشرية التي للأسف لم يبق لنا من معالمها إلا بعض الشواهد الأثرية، التي نستدل بها على ذلك. إلا أننا لا نعدم لها تاريخا يتبدَّى ما بين الألف الثانية والألف الأولى قبل الميلاد، فيما عرف بـ (نوميديا الشرقية) التي كانت (عنابة) جزءا منها، وتدل على ذلك نواميس دفينة، كما يتجلى أيضا فيما نجده من ترسبات شفوية، وممارسات حرفية تمارس فعلها في الإنسان عبر التاريخ إلى اليوم، والكشف عنها من مهمات الدارسين.
فـ(عنابة) في حاجة إلى جهود الباحثين لإبراز تاريخها، تمهيدا للاحتفال بمرور ثلاثين قرنا على تأسيسها بكونها مدينة استراتيجية هامة. فهي من أقدم مدن الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، بل أقدم من مدينة الإسكندرية، كما أنها أهم المدن الساحلية السياحية في الجزائر، فقد عرفت أيضا بأنها مصيف ملوك الأمازيغ عبر تاريخ دولهم، فسميت بــ: (مدينة الملوك HIPPON Régius).
مصادر هذه الدراسة:
لقد عدنا إلى مجموعة من المصادر والمراجع، بعضها تعوَّد عليها القارئ، وبعضها الآخر لم يتعوَّد عليه، وهي ليست من السهولة بحيث يمكن اعتصارها واستخراج المادة منها، وهذه المصادر:
1 ــ الآثار في المتاحف وفي الطبيعة.
2 ــ إشارات المؤرخين والرحالة.
3 ــ المأثورات الشفوية وما حملته من ترسبات لغوية وثقافية.
4 – المشغولات اليدوية والمهارات الشعبية الفنية.
5 ــ الممارسات الشعائرية الطقسية المتحولة .
ولم نستهدف في هذه الدراسة التاريخ بالدرجة الأولى بقدر ما استهدفنا الجانب الخفي من ثقافة مدينة (عنابة) أي الماضي، الحي الجاري في الاستعمال، الذي يحتاج إلى إضاءة جانب كبير منه، وهو دور الباحثين والدارسين المختصين في تراث الشعوب من علماء الاجتماع والتاريخ والآداب والفنون؛ لإبراز الجانب الآخر المتمثل في إبداع الجماهير على اختلاف أشكاله، الذي ظل مكبوت الصوت، مقصيا ومنزاحا عن الظهور.
كما اعتمدت هذه الدراسة في جانب منها على:
الوثائق (التي قد نختلف في قراءتها مع زملائنا الدارسين)، وفي جانبها الآخرعلى العمل الميداني بدرجة مميزة، من أجل تحليل الأنساق الثقافية المترسبة، وعرض البنية الاجتماعية للمدينة، ثم الإبداعات الشعبية (لساكنيها) في مسوحها الثقافية، التي تتبدى في ممارسات وسلوكات تطبع بعضا من مظاهر حياتهم.
وهذه الدراسة التي نحن بصددها المعنونة بــ: مدينة عنابة بمناسبة مرور ثلاثة آلاف سنة على تأسيسها “مقاربة تاريخية ثقافية اجتماعية”. ستليها دراسات أخرى بعون الله:
ـــ مدينة عنابة في عيون المؤرخين والرحالة الأوروبيين.
ـــ مدينة عنابة خلال الفترة الاستعمارية ودورها في حرب التحرير الوطنية.
– مدينة عنابة مركز اقتصادي، تحولات وتطورات اجتماعية في ظل مؤسسات الدولة الجزائرية الحديثة.
*كلية الآداب ــ جامعة عنابة باجي مختار ـ الجزائر