في رحاب الشريعة

العباس وعليّ..أو الفراسة والطموح/ محمد عبد النبي

للتجارب في أعراف الناس تأثير، وللخبرة من ذوي الشيبة اعتبار، وحين يتوسّل العقلاء بخبرة الكبار وحماسة الشباب في تسيير الأمور يكون الصواب -في الغالب- حليفهم، أما إذا استُهجنت الحماسة تارة، واستُبعدت التجربة تارة أخرى فلا مناص من ترقّب الخيبة والفشل، وقد يمكن القول بأن حِكم القول -تذهب مثلا بين الناس- لا توجد إلا عند المجرّبين، كما أن مواقف الفعل والإقدام لا تُؤْثر إلا عن الفتية، حين تتوفّر لهم البيئات الحاضنة.

أخرج البخاري (6/12) عن عبد الله بن عباس أن “علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- خرج من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس: يا أبا حسن: كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئا، فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب فقال له: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، وإني والله لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يتوفى من وجعه هذا ! إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت ! اذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلْنسألْه فيمن هذا الأمر؟-يقصد الخلافة- إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه، فأوصَى بنا، فقال علي: إنا والله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم“.

في هذا النص أمران مهمان، أولهما: الخبرة المشار إليها، والتي قد تلامس في بعض تجلياتها الفراسة، أو الملَكة، وبالرغم من أن الأعمار بيد الله، وأنه لا يمكن الجزم بوفاة أحد إلا بعد تسليم الروح إلى بارئها: فقد أقسم العباس على قرب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأتبع قسمه هذا بما يَخبره من أمارات للموت، تعلو وجوه بني عبد المطلب، وليس هذا من ادعاء الغيب في شيء، ولا نزال نسمع أقوالا عن أناس من نسب واحد يتوارثون أمراضا تذهب بهم، أو يصلون إلى أعمار معينة، ثم يموتون، قال الحافظ ابن حجر في الفتح (8/143):” قوله: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا: هو كناية عمن يصير تابعا، والمعنى أنه يموت بعد ثلاث، وتصير أنت مأمورا عليك (زاد العيني: مأمورا بلا عز ولا حرمة !)، وهذا من قوة فراسة العباس رضي الله عنه..”

وقال العيني في العمدة (8/69):” قوله: (سوف يتوفى)، أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا قاله عباس مستندا إلى التجربة، لأنه جرب ذلك في وجوه الذين ماتوا من بني عبد المطلب”. قال ابن حجر:” وذكر ابن إسحاق عن الزهري أن هذا كان يوم قبض النبي صلى الله عليه وسلم”.

والأمر الثاني في هذا الحديث: هو ما يمكن التعبير عنه بامتيازات القرابة، التي يعتقدها كثير من الناس، جليلهم وحقيرهم، وما نراه اليوم من مناصب وامتيازات تُسند لذوي القرابة من ملك أو حاكم إنما هو استجابة منفلتة من كل قيد لما بات المتخلِّفون يعتقدونه من “حقوق” ينبغي أن يسلِّم لهم بها بقية الناس ! وما صدر من علي والعباس يندرج في هذا الإطار، غير أنهما -لجلالتهما وأدبهما- رضي الله عنهما أبقيا هذه النزعة “الطبيعية” في حدّها الأدنى، على تفاوت بينهما راجعٍ إلى طبيعة كل واحد منهما، فالعباس رضي الله عنه قنع من “الغنيمة” بالوصية لآل البيت مراعاة للمقام، ولا ينبغي أن ننسى ما في كلمته لعلي من الحثّ والتهييج:” أنت والله بعد ثلاث عبد العصا” !

وأما علي رضي الله عنه فسَقْفه في مطالب القرابة كان أعلى:”وهل يطمع في هذا الأمر غيرنا”؟ ! كما ورد عند ابن حجر من مرسل الشافعي، وكلامه دلّ على ذكاء ودهاء وبعد نظر، “ إنا والله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم“. وذلك لكي يبقى باب الطلب من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرّعا، كما حدث فعلا من بعد.

قال الحافظ ابن حجر(8/143):”..وزاد بن سعد في مرسل الشعبي في آخره: فلما قُبض النبي صلى الله عليه وسلم قال العباس لعلي: ابسط يدك أبايعْك تبايعك الناس، فلم يفعل، وزاد عبد الرزاق عن ابن عيينة: قال الشعبي: لو أن عليا سأله عنها كان خيرا له من ماله وولده، ورويناه في فوائد أبي الطاهر الذهلي-بسند جيد- عن ابن أبي ليلى قال: سمعت عليا يقول: لقيني العباس، فذكر نحو القصة التي في هذا الحديث باختصار، وفي آخرها قال: سمعت عليا يقول بعد ذلك: يا ليتني أطعت عباسا، يا ليتني أطعت عباسا؟ ! وقال عبد الرزاق: كان معمر يقول لنا: أيهما كان أصوب رأيا؟ فنقول: العباس، فيأبى ويقول: لو كان أعطاها عليا فمنعه الناس لكفروا”.

ما ورد عن علي في هذا الخبر من أنه ندم، وتمنى أن لو أطاع العباس ما أحسبه يتفق مع عقل عليّ وبعد نظره المشار إليه، فقد كان طرحه واضحا وجليا في نص البخاري، ولو صحّ ما ورد في غيره لدلّ على اضطراب في التفكير، وركون إلى مجرد الأماني، وعلى كلٍ فالخبر الذي عند البخاري هو الأولى أن يُتكأ عليه ويُركن إليه.

 

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com