مساهمات

دورالخلفيــــة الثقافيــــة في تفعيل روح المقاولــــة

د. يـاسين مشتة/

سنحاول في هذا المقال التطرق إلى العلاقة بين المقاولة والثقافة، فهذين المفهومين المتلازمين في بحثنا يشكلان أحد العناصر الأساسية وبالتالي ستكون محاولة منا لتحليل تلك العلاقة من خلال التطرق لمفهوم الثقافة وبعض المفاهيم ذات العلاقة المباشرة بها، كالاتجاهات والقيم والسلوك..، كذلك نتطرق إلى العوامل السوسيو ثقافية لإنشاء المؤسسة وعلاقة الدين بالمقاولة من خلال أطروحتي ماكس فيبر وغاري تريبو
تبقى الثقافة من المفاهيم الإشكالية التي لا تتوقف على تعريف واحد، لدرجة أن المؤلف البريطانيWilliams Raymond قال عنها:” لا أعرف كم مرة تمنيت لو أنني لم أسمع بهذه الكلمة اللعينة مع ذلك يمكن أن نعرفها بأنها طرق العيش والتفكير والممارسة لدى الإنسان والتي تنتقل من جيل إلى جيل، كذلك هي مجموع السمات المميزة الروحية والمادية التي تميز مجتمع ما عن غيره، فحسب بيان مكسيكو1982 من خلال الثقافة الإنسان يعبر عن كينونته، يعي ويتعرف على النقص في نفسه، يعود للتساؤل عن إنجازاته.
استخرج Kamdem ثلاثة اتجاهات في معالجة الثقافة: الفلسفي، الانثروبولوجي والاستراتيجي، فالمنظور الفلسفي يتعلق بنمو الشخصية لدى الأفراد من خلال معارفهم النظرية والعملية، أما الاتجاه الانتروبولوجي يهتم بنظام القيم المشتركة لأعضاء الجماعة والتي تعطي معنى لوجودهم، أما الاتجاه الثالث الاستراتيجي إلى نظام من القواعد الضمنية أو الصريحة التي تنظم السلوك الفردي والجماعي.
تمتلك الشعوب ثقافة خاصة بها وذلك للاختلافات في السياق الجغرافي والتاريخي أين تعيش، بالإضافة إلى العادات والتقاليد وطرق العيش والتفكير والذهنيات المميزة لها، هذا الاختلاف نجد له تعبيرا مكتملا في البديهية القائلة:” لكل شعب ثقافته” بمعنى لكل شعب طريقة معينة في الحياة، علاوة على ذلك الأشخاص الذين يعيشون مجتمعين في جماعات أو مجتمعات، يتقاسمون شروط حياة واحدة ويتبنون أنماط جماعية للعيش وسلوكات مختلفة عن باقي الأعضاء في الجماعات أو المجتمعات الأخرى، هذا ما سماه كل من Greet Hofsted et Boullinger بالبرمجة الذهنية الجماعية، هذه الأخيرة تكون موحدة ومشتركة بالمرة مع باقي الأفراد لأنها تظهر في ثلاث مستويات:
•المستوى الكلي والجامع المشترك لكل الانسانية.
•المستوى الجماعي والذي يتعلق بخصوصية كل جماعة أو مجتمع.
•المستوى الفردي والذي يميز كل فرد ويجعل منه كائن وحيد مختلف عن الباقي مادام ليس هناك شخصين على حد سواء.
تظهر الثقافة حسب هذا في المستوى الثاني أي المستوى الجماعي والذي ينطوي أيضا على التعليم، التنشئة الاجتماعية وانتقالها من جيل إلى جيل.
وعليه فإن هذا المنظور يسجل التعايش بين الثقافة والشخصية، فهذه الأخيرة تعتبر شديدة التبعية للثقافة المميزة للمجتمع، ومثال ذلك مقترح Kardiner القائل أن كل منظومة اجتماعية ثقافية تقابلها شخصية منوالية ـــ الأنا هو استباق ثقافي ـــ ومقترح Mccliland القائل بأن بعض المجتمعات تجعل من الجودة/ الكمال، أي من حسن الأداء والنجاح قيمة مركزية، بحيث تصبح الحاجة التي يسميها بالإنجاز مكونا أساسيا لشخصية الأفراد المكونين لهذه المجتمعات.
في هذا المجال ينزع كثير من الثقافويين في تحليلاتهم الخاصة بالمنظومات الاجتماعية، إلى تخصيص التنشئة الاجتماعية بدور نوعي وحاسم، إذ من خلالها يتم انتقال القيم الأساسية من جيل لآخر.
الثقافة تشمل التفكير والإحساس والفعل للجماعة الإنسانية، المكتسبة والمنتقلة عن طريق الرموز التي تمثل الهوية الخاصة للأشخاص، فهي تشمل الأشياء المادية التي تنتجها المجموعة. هذه الثقافة تظهر من خلال التفاعل بين قيم واتجاهات وسلوكات أعضائها، كما يعبر عنها من خلال القيم التي يفضلها الأفراد في موضوع الحياة والبيئة المحيطة بهم، هذه القيم بدورها تشكل وتهيكل مواقفهم تجاه مؤثرات البيئة وتحدد كنتيجة السلوك الذي يعد الأكثر ملاءمة وفعالية في حالة ووقت معينين، وبالمقابل السلوك الفردي أو الجماعي له تأثير على ثقافة المجتمع .
تعد المقاولة حقلا خصبا للتأثير الثقافي، بل أكثر من ذلك هي فعل ثقافي، فلأجل خلق مؤسسة لا يكفي فقط امتلاك روح مقاولاتية وامتلاك شروط مشجعة للفعل المقاولاتي، حيث أنه للمرور إلى الفعل يتطلب ذلك دافعية فردية والتي تكون ضرورية ففي هذا الإطار تتموقع مساهمة ماكس فيبر الذي جعل من نظام القيم عاملا من العوامل المفسرة لبروز وتطور القدرات والدوافع المشكلة للسلوك المقاولاتي كما حدد Wetterwalg عدة عوامل محددة للسلوك المقاولاتي للأفراد منها “البيئة السوسيو ــ ثقافية، السياق العائلي، التجربة والوسط المهني والنظام التعليمية، ويظهر تأثير الثقافة في الفعل المقاولاتي من خلال مفهوم الراس المال الاجتماعي فهذا المصطلح
يشير إلى الموارد المرتبطة بالاتصال والشبكات العلائقية بين الأشخاص، هذا المفهوم استخدم كثيرا في بحوث العلوم الاجتماعية . ويتكون من خلال العلاقات الشخصية التي بإمكان الفرد تعبئتها مثلا في سوق العمل وإلا كيف نفسر الاختلافات في الاندماج المهني لفردين يمتلكان شهادتين متكافئتين، إن هذا مرتبط بالشبكات الاجتماعية والمتعلقة بالدرجة الأولى بالموارد العائلية.
في هذا الصدد وجهة نظرRobert Putnam حول المفهوم تحيل إلى أن رأس المال الاجتماعي مرتبط بحدة وبكثافة الروابط الاجتماعية داخل الجماعة البشرية، كما أنه يترجم بالثقة في الآخرين وفي المؤسسات، الفكرة التي أكدها Coleman حيث أشار إلى أن المردودية تتطلب درجة من الثقة الغالبة داخل الجماعة. كذلك بأهمية التبادل في العلاقات البشرية ووجود القيم المشتركة، أما فيما يخص رأس المال الثقافي فهو يحيل ـــ من وجهة نظر Bourdieu ـــ إلى مختلف العناصر المكتسبة من خلال مسار التنشئة الاجتماعية، عن طريق مؤسسات العائلة كالمدرسة وباقي المؤسسات الثقافية …إلخ إذ تقوم بنقل رأس المال والتحكم فيه عن طريق مجموعة من المؤشرات مثل: الشهادات، المقروئية، الاستماع إلى الموسيقى ….إلخ . أما رأس المال البشري فيشير إلى مجموع الكفاءات بمختلف طبيعتها المكتسبة من خلال الأفراد الذين يهدفون إلى تحقيق عائد في سوق العمل.
مما سبق يظهر أن مختلف الرساميل التي يمكن أن نعطيها الصبغة الاجتماعية، هي عبارة عن مجموعة موارد معبأة يستحضرها الأفراد في مختلف وضعيات الفعل والممارسة، ففيما يتعلق بخلق وإنشاء المؤسسة أي المقاولة فإن المقاول لم يأت من فراغ فهو يقوم باستغلال مجموعة الموارد المتاحة سواء بطريقة مباشرة (التمويل مثلا) أو غير مباشرة (الانتماء لأسرة أعمال وما توفره من تنشئة).
ماكس فيبر والتحليل الثقافي الفهمي
تعد أطروحة ماكس فيبر التي لخصها في كتاب “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” حول الأسباب التي أدت إلى تطور الرأسمالية، من بين المرجعيات الأساسية في التحليل السوسيو اقتصادي، والسوسيو ثقافي لظاهرة المؤسسة بصفة عامة، ذلك أنه يعد من الأوائل الذين ناقشوا مسألة القيم المتعلقة بالدين وعلاقتها بالظهور المؤسساتي بصفة خاصة كما أنه اعتبر أن الأفكار والقيم أسهمت في تشكيل المجتمع وتوجيه افعالنا .
يعد الارتباط الرباني والخلاص والزهد من المبادئ الأساسية للكالفينية في بداياتها، فما هي المبررات الفيبرية لهذا الطرح؟
يشير فيبر إلى وجود صلة كبيرة بين القيم التي تدعو إليها البروتستانتية خاصة المذهب الكالفيني، من عمل جاد وتقشف وتراكم المال والرغبة في الخلاص وصعود الرأسمالية، فإن المقاول هو الذي يجسد هذه القيم بدرجة عالية، بدافع تحقيق الذات والنجاح، ولتحقيق ذلك يتم استحضارها (القيم) لمواجهة عدم اليقين والخطر، والخوف من الفشل ….إلخ
إن الكالفينية أحدثت تغييرات في مواقف الأفراد اتجاه العمل الذي تحول من مصدر رزق بسيط إلى أداة فعالة لتحقيق الخلاص، وأمن الذات، كما أنها أسست للنزعة الفردانية، فدخول الفرد في استقلالية تبعده عن بعض الارتباطات العائلية والاجتماعية بالخصوص ما تعلق بالتضامن، يقلص من علاقاته العاطفية والشخصية ويصب جهوده نحو الترشيد والحسابات العقلانية، وعليه فإن التجارة والأعمال وكل مناحي حياة الأفراد تتأثر بهذه الأخلاقيات.
لقد أحدثت التحولات المتمثلة في احترام العهود، النزاهة في المعاملات، الاجتهاد والمثابرة والوفاء لمختلف المسؤوليات الفردية في مختلف الميادين، تأثيرات على عالم الأعمال وعلى ممارسة الأفراد له بما في ذلك الدوافع الشخصية الكامنة وراء فعل إنشاء المؤسسة.
يرى فيبر أن الرأسمالية بمختلف أشكالها وجدت في العديد من الأقطار وفي مختلف الأنشطة فوجد تجار الجملة أو التجزئة، الدائنون القروض والمصارف، أسواق التمويل والعمليات العقارية في الهند، الصين، بابل، مصر، في العصور القديمة والوسطى،… إلخ، لكنها اتسمت باللاعقلانية عكس ما عرفه المجتمع الأوروبي من عقلانية إنتاجية وتنظيمية مبنية على أسس الأخلاق والقيم الدينية البروتستانتية، ففيبر في هذا الصدد يستدل بالواقع السوسيو اقتصادي لألمانيا آنذاك فيقول:”إذا عدنا للإحصائيات المهنية في بلد تتعايش فيه طوائف دينية متعددة، نلحظ بصورة متواترة واقعا أثار العديد من المرات، نقاشات حادة (…) يتلخص هذا الواقع في أن رجال الأعمال، وكذلك ممثلي الشرائح العليا المصنفة من اليد العاملة، وفوق ذلك الملاك التقني والتجاري ذا الثقافة الرفيعة في المؤسسات الحديثة (كما وردت في النص المترجم)، هم بأغلبية كبيرة من الطائفة البروتستانتية
وفي نفس الطرح المقارن بين مختلف الديانات وخاصة بين الكاثوليكية والبروتستانية، وأيها أكثر تشجيعا للنزعة نحو المال والكسب (الروح الرأسمالية)، أشار فيبر إلى أن الكاثوليكية أكثر انفصالا عن العالم كما أنها ترسخ في أذهان معتنقيها قيم اللامبالاة بالعالم المادي، على العكس من المذهب البروتستانتي تقول الحكمة الشعبية بطرافة: إما أن تأكل جيدا أو أن تنام جيدا، في الحالة الحاضرة يفضل البروتستاني أن يأكل جيدا بينما يفضل الكاثوليكي أن ينام هادئا.
وفي الأخير إذا كان فيبر يرى أن الأخلاق هي التي شجعت على تطور الرأسمالية، فإن هذه الأخيرة ساهمت في بروز أخلاق وقيم مشجعة للمقاولة والمقاول، وبالتالي يبقى الطرح الفيبري قابل للنقاش وسنتعرض لذلك بعد التطرق لأطروحة معاصرة، دائما في إطار العلاقة بين إنشاء المؤسسة والقيم الثقافية.
غاري تريبو والمقاول المسلم
منطلقا من فرضية ماكس فيبر، حاول غاري تريبو اختبارها في المجتمع الإسلامي من خلال بحث عنونه ب”المقاول المسلم: الإسلام وعقلانية المؤسسة ”، حيث رأى Tribou أنه هناك تماثل بين الإسلام والبروتستانتية في تأثيراتهم على تشكل روح المؤسسة، فلقد دافع ودعم فكرة المقاول المسلم الذي اعتبره ليس متميزا باعتقاده وخضوعه لله فقط لكنه أيضا يتميز بالحرية والفردانية وعقلانية في التسيير الاقتصادي للمخاطر والإبداع.
بالمقابل هناك تعارض بين الإسلام والحداثة الغربية تتمثل في خلق الفردانية، والسلوك الاقتصادي القدري وتحريم الربا، وبالتالي هناك تعارض بين الإسلام وفكرة التقدم لدى الغرب.
ومن خلال أطروحة غاري تريبو يتبين أن الإسلام يشجع الاغتناء ونمو رأس المال ويحرم الغنى الفاحش المخالف لتعاليم الله، يشجع الملكية الفردية لكن كل هذا وفق التعاليم الدينية للإسلام كما أنه يعظم العمل التجاري والإبداع والابتكار إلا ما تعلق بأصول الدين ويعوض تحريم الربا بما تعرضه المؤسسة البنكية الإسلامية وكذلك الزكاة (كآلية للتمويل)، وبالتالي يجد المقاول المسلم في الإسلام القيم والمعنى والقوة التي تحقق له التغذية الروحية في نشاطه الاقتصادي.
إن الدين يعطي الأهمية للروابط الإجتماعية التي تجعل من الأفراد مندمجين في الحياة الاجتماعية ،وبالتالي تعزيز الاتساق فيما بين أفراد الجماعة، كما أنه أيضا يقوم بوظيفة تتمثل في ”المشرعة ‘ بالمعنى الفيبري: تفسير وتبرير النظام الاجتماعي.
لا يوجد شك في أن الدين يعد من الأبعاد السوسيو ثقافية التي لها تأثير على الديناميكية التنموية لأي مجتمع بصفة عامة والديناميكية المقاولاتية بصفة خاصة، ذلك من خلال منظومة من الممنوعات والمباحات والانتقال من نسق التصورات إلى نسق الممارسات.
إن للمنظومة القيمية دور كبير في تحديد مواقف الأفراد اتجاه مختلف نواحي الحياة بالخصوص ما تعلق بعالم الأعمال والعمل المستقل، هذه المنظومة تتأثر بدورها بالدين، لكن يبقى هذا العامل على المستوى العملي عبارة عن إطار مرجعي يمكن ضمه إلى عوامل أخرى سوسيو ثقافية، اقتصادية وسيكولوجية .. إلخ ، مركبها يصب في تشجيع أو كبح التنمية لذا نجد مجتمعات ذات ديناميكية مقاولاتية قوية.
يبقى كذلك الإشارة إلى موقف آخر انتقد بشدة الحتمية الثقافية كعامل مسؤول عن تشكل السلوك التنظيمي، والمتمثل في موقف كل من Michel Crozier et Erhard Friedberg القائل أن اعتبار مظاهر وآليات الدمج والتوفيق للفعل الجماعي أشكالا ثقافية لا يعني أن بنيات ووظائف التنظيم محددة من قبل القيم ولسمات الثقافية القاعدية الخاصة بالمجتمع، وإنما هي أيضا مكونات اجتماعية من داخل النسق.
*دكتور في سوسيولوجيا العمل

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com