على بصيرة

فــي ذكـــرى ميـــلاد الروح

أ.د. عبد الرزاق قسوم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/

كلما أظلتنا ليلة المولد النبوي، كل سنة، أحيت في نفوسنا هموما، وبثت في صفوف مجتمعنا سموما، فأعادتنا إلى ضلالنا القديم الذي جمدنا على اعوجاجه، وخَمُدنا على أكل دُجاجه، وسلكنا المعوج من فجاجه.
يأتي المولد النبوي ليعيد بين علماء ديننا استعار الجدل العقيم، حول بدعية أو سنية الاحتفال بالمولد النبوي، ويذكي بين أطفالنا ألعاب البارود، بما سمي ظلما «بمحارق المولود».

فإذا تجاوزنا الشكل إلى المضمون، وسلمنا بجواز الاحتفال بليلة مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، أبان لنا الاحتفال عن خطاب ديني عقيم، لا يتناول من حياة الرسول إلا ما هو كلام لا يستقيم.
إنهم يختزلون شخصية محمد المعلم للإنسانية في صفات اليتم، والفقر، والبؤس، والمعاناة، وإنها لصفات لو دُقّقت في مفهومها، وعُمّقت في مدلولها، واستُنبطت المعاني من معلومها، لأحدثت في عقول جيل المستقبل، وفي الأمة كلها ثورة في بناء علومها.
لا عبرة –إذن- بمن يحرّم الاحتفال بليلة المولد وبمن يوجبها، ولكن العبرة تكمن في منهجية التعامل مع هذه الليلة من منطلق جوهرها ومكنونها.
فليلة المولد النبوي في منطق العلماء الراسخين في العلم، هي ليلة لا كباقي الليالي في الزمن، لأنها ليلة تحيلنا إلى الضياء في أبهى أشعته، وإلى الصفاء في أجلّ قدسيته. فنحن نقتبس من هذه الليلة من عبق الروح المحمدية ما نبني به روح جيل الغد، ونشحذ به عزيمة المجتمع الإسلامي، لبناء المجتمع الأفضل.
إن سر عظمة مولد محمد، لا يكمن في مجرد الحدث الزماني، ولكنه يتجاوزه إلى ما وراء الحدث أي القبلية والبعدية، لهذا الحدث.
فالقبلية لمولد رسولنا عليه السلام تتجلى قيمتها في ما كان سائدا، في الحياة من ظلمات بعضها فوق بعض، نسج عتمتها الظلم، والجهل، والتعصب، والجور، والحرب، وهي الجاهلية التي جعلت الإنسان «صنما قد هام في صنم»، على حد تعبير أمير الشعراء أحمد شوقي.
أما البعدية للحدث، فقد تجسدت في ميلاد ضياء الكائنات التي صنعها النور الرباني، والتآخي الإيماني، والحب الإنساني تحت لواء الدستور القرآني.
إن المعنى الذي يغفل عنه الدعاة، والوعاظ، عندما يتناولون مولد محمد في ليلته، هو أنه مَثّل تبسم الزمان بارتباط الأرض بالسماء، وتنزل الغيث الرباني ممثلا في الوحي الذي زرع الحياة في البشر، فأنبت ذلك الكلأ في الشجر وصاغ ذلك الوحي أسس بناء المجتمع المستقر.
كما أن من المعاني التي يجب أن نذكر بها العقل الإنساني على اختلاف قناعاته وتوجهاته، هو أن مولد نبي الإسلام هو مولد لكل الشرائع السماوية، في صيغتها الختامية، والتي تنص على العدل بين جميع البشر، والإحسان إلى كل نفس رطبة، وإشاعة الوئام، والسلام، ضد أنواع الحروب والخصام.
لذلك، فإن ما نستلهمه من مولد سيدنا محمد ليس فقط السمات الشخصية والتي هي من أكمل ما فيه:
وأكمل منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء
فإلى جانب كمال السمات الشخصية التي تحلى بها نبينا عليه السلام هناك المواصفات الإنسانية التي تنبض بالقيم، وتفيض بحقوق الإنسان والأمم، وتعمل على شحذ العزائم والهمم.
فلو نزّلنا ما يجب أن يكون من متطلبات الاحتفال بالمولد النبوي، على ما هو كائن اليوم في واقعنا، لتراءى لنا، عقل بئيس في مجتمع تعيس، هو كل ما يرمز إلى سلوك خسيس.
من هنا جاءت فكرة من يذهبون إلى بدعية الاحتفال بالمولد النبوي، إن نحن أحسنا الظن ببعضهم. فإذا كان الاحتفال يُختزل في الموائد، ويُقتصر على المبتذل من الفوائد، ويجمد على البالي من العوائد، فإنّ الاحتفال يصبح من أسوإ البدع في العقائد.
نريد -إذن- لعلمائنا، وفضلائنا، وعظمائنا، وزعمائنا، أن يعملوا على تغيير الذهنيات، ويصححوا الفاسد من المعتقدات.
إن تاريخنا الإسلامي مليء بالكنوز، والرموز ويتطلب فقط تجاوز فقه ما يجوز وما لا يجوز، إلى الفحص والتنقيب عما هو مخبأ في أعماق تاريخنا من درر، ومن كنوز.
وما أحوج العالم المعاصر الذي يعيش اليوم ويلات المحن والفتن، بسبب إيديولوجيات الحروب، ما أحوج هذا العالم، إلى أن نقدم له الإسلام، في قيمه السامية، ومعاملاتنا العالية، ليسهم في تقدم الأمم الزاحفة، بالرغم من هذه الحياة المتزاحمة.
إن العالم المادي المعاصر، يعاني اليوم من العنصرية المقيتة، ويئن تحت وطأة الهيمنة الخبيثة، فهو في حاجة إلى من يخرجه من الحيف إلى الخلاص، ويفتح عقله، وعينه، على الصدق والإخلاص.
ولا نعتقد بوجود من هو أقدر و أنسب للاضطلاع بهذا الدور من المنهج المحمدي إذا أحسن فهمه وتطبيقه، ووفق في عرضه وتحقيقه.
إن محمدا كما تقول المفكرة الانجليزية كارين أرمسترونغ «نبي لزماننا»، ولكن ليكون محمد نبيا لزماننا يجب أن نكف عن الانتساب المزيف والكاذب لمحمد، فبيننا من حيث الفهم والسلوك، وبينه، ما بين السماء والأرض.
فإذا كان الإسلام من أقدس مبادئه الأخوة، والمحبة، والتضامن، والتعاون.
فما بالنا نحن المسلمين، نعيش العداوة والبغضاء، والظلم والشحناء، فلا يكاد يخلو بلد مسلم من نزاع مع بلد مسلم آخر، فأين نحن من القيم الإسلامية التي نتغنى بها؟
فلو أطل علينا رسولنا بروحه، لهاله ما نعانيه، ولصدمه ما نلاقيه، حدود مشتعلة بالحروب، وقمع ترزح تحته شعوب، وسجون ملأى بالعلماء، والبرآء، تئن تحت وطأة المغلوب، فأين المخرج من هذه الدروب؟
ففي ذكرى مولد الروح، لا نملك إلا أن نتوجه بقلب مقروح، أن يزيل الله ما بنا من جروح، وأن ُيهلك الطغاة المحتلين لأرضنا، فيهدم من فوقهم الصروح.
فيا رسول الله!
إن أمتك قد ضاقت بها السبل، وطوقتها من كل جانب المصائب والعلل، فمنّ عليها بما يوفقها ويهديها إلى خير المثل.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com