الثقافة الذاتية وقاعدة الانطلاق/ د. إبراهيم نويري
لا شك أن المتأمل في ساحاتنا الثقافية والاجتماعية ونحوها، يلاحظ بأن هناك تياراً عريضاً من الناس في أمتنا– بما فيهم الكثير من المثقفين– يقع في الخطأ، ويغلب عليه الوهم والخلط في التقدير، حين يعتقد بأن المستوى المعيشي والحضاري الذي عليه شعب ما أو حضارة بعينها، هو نتاج مرحلة واحدة من تاريخ ذاك الشعب… أو تلك الحضارة…!
كما يزعم آخرون أيضا –بما يظنونه الحقيقة الكبرى– أن السبيل الصحيح لاستنهاض المجتمع وتطويره نحو الأفضل يبدأ بتكريس قاعدة “التقليد”، والإيمان المطلق بقيم ومفاهيم المجتمعات التي نجحت في الوصول بإنسانها إلى بعض المراتب والدرجات اللائقة بآدميته، وحققت له من الرفاهية ورغد العيش ما يتطلع إليه كلُّ إنسان على ظهر هذه الأرض.
والواقع –كما تصرح به التجربة والملاحظة– أن هذه التصورات بعيدة تماما عن الصواب، فضلا عن كونها مجانفة أيضا للمنطق الطبيعي في التطور والبناء والتغيير.
فليس هناك تحولٌ حضاريٌ ومدني وعقلي شمولي قاد مجتمعاً ما إلى النجاح والتألق والبروز، كان مؤسسا على ركائز من التلفيق، والخلط العشوائي بين الأصيل والغريب، وعدم الخضوع والاستجابة إلى القوانين والسنن المركونة في حركة التاريخ، والإعمار والاجتماع البشري، ومعادلات التفاعل بكل محدّداتها وضوابطها وأطرها الصحيحة.
وإذا كانت الإنجازات الحضارية الكبرى محكومة بمعايير موضوعية خاصة، فإن الانطلاق من الذات يشكّل دائما القوة الحقيقية الضاغطة تجاه أي تقدم أو تطور يعكس السمات المميزة لتلك الذات وخصوصياتها.
لقد رسخت هذه النظرة، وتحولت إلى مبادئ أو إلى قيم فلسفية، اعتمدها زعماء ومفكرو المرحلة التي اصطُلِح على تسميتها بمرحلة النهضة في أوروبا، وبدهي أن الفكرة – مهما كانت درجة صحتها– لن يُكتب لها النجاح والإيناع إلا إذا أحيطت بشروط نجاحها وعوامله المختلفة المتداخلة، تماما مثل البذرة التي لا تنمو بصورة طبيعية، إلا في مناخها ومحيطها الطبيعي.
لذلك فقد كان عملُ زعماء النهضة في أوربا منصباً حول ضرورة خلق الجو العام الملائم لتلك المبادئ والأفكار التي آمنوا بها، والتزموا بها تطبيقاً وتنظيراً في منهجهم، وفي مقدمتها الانطلاق من الذات، والانسجام مع الخصوصيات.
إن تراكم التجارب مع تحديد قاعدة الانطلاق، والإصرار المتواصل بوعي على تزكية ودعم الثقة بتلك القاعدة، إلى جانب غربلة التجارب المتنوعة وحسن الاستفادة من إبداعات الآخرين وانقداحات عقولهم ومواهبهم، هو الطريق الراشد لتحقيق الوثبة الحضارية بواسطة الاستناد إلى تغيير اجتماعي وثقافي مؤسس على أُطر وروافد وأدوات أصيلة نابعة من عمق وخصوصيات الكيان الحضاري، والتوجه الفكري القائم بكل مضامينه وبصماته النفسية والعقلية والمزاجية ونحوها.
والنخبة المثقفة اليوم في العالم العربي والإسلامي، مطالبة بإلحاح، أكثر من أي وقت مضى، بأن تستوعب هذه الحقيقة الكبيرة، وتعمل من أجل تجاوز العقبات المختلفة، التي تحول دون بروز أمتنا ومجتمعاتنا على المسرح العالمي من جديد، وليس مهماً –في نظري– بخصوص هذه المسألة بالذات الاحتجاج باختلاف الاتجاهات والمشارب الفكرية والمنازع العقدية (الإيديولوجية)؛ فالتخلف مرض ونكبة فهو حين يصيب المجتمع –أيَّ مجتمع– فإنه لا يفرق بين اتجاهاته الاجتماعية وتياراته الفكرية.
إن القوى الاستعمارية المعادية لمصالح العالم العربي والإسلامي وتوجهاته، تدرك أتم الإدراك أثر الجهود التنموية القائمة على أساس من الخصوصية الفكرية والثقافية والوجدانية، وأبعاد استقلالية الفعل الحضاري من أجل ذلك فإن جميع الحلول والبرامج الوافدة توضع –مدعومة في أحيان كثيرة بحوافز مشجعة – في متناول أمتنا ومجتمعاتنا. بينما توضع العراقيل والحواجز، بل السدود والقيود، في وجه الحلول والبرامج الأصيلة النابعة من ذات الأمة، المتسقة مع شخصيتها بكل مكوناتها وخصوصياتها، وأنساقها العقدية والروحية والثقافية.
إن تلك القوى الراصدة لحركية مجتمعاتنا وتطلعاتها المشروعة للتنمية والنهوض والتقدم، تنشط بدأب وتخطيط وإعداد، كي لا تأخذ أمتنا الوجهة الصحيحة لانطلاقتها الفعلية المأمولة وإقلاعها الحضاري الذاتي المرتقب، وذلك لضمان تحقيق الانحراف عن هذه الوجهة، فإن تلك القوى عملت وتعمل بشتى الوسائل والأساليب على غزو العقول والإشراف على برامج التبديل الفكري والثقافي والإعلامي، بهدف تأبيد التبعية لدى إنساننا ومجتمعاتنا، ومن ثم تأخير أو إقصاء أي محاولة صحيحة للنهوض والتنمية.
وفي انتظار حسم هذه المعادلة المتداخلة، يظل السؤال مطروحاً على نخبنا الثقافية والفكرية أو في مجتمعاتنا وساحاتنا الثقافية: كيف السبيل للخروج من هذه المفازة؟ وكيف يتم تحقيق الإنعتاق بالصورة والكيفية المتناغمة مع توجّهاتنا الفكرية، وموروثاتنا الحضارية، وقيمنا العقدية والإنسانية والكونية؟