الإســـلام … وحقـــوق الإنســان/ يوسف جمعة سلامة
وافق يوم أمس الأحد العاشر من شهر ديسمبر ذكرى اليوم العالمي لحقوق الإنسان، ومن الجدير بالذكر أن الشريعة الإسلامية الغراء قد سبقت بقرون إصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة الميثاق العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من شهر ديسمبر لسنة ثمانٍ وأربعين وتسعمائة وألف للميلاد.
إن الإنسان سيّد هذا الكون، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، فكلّ ما في هذا الكون مسخر لخدمة الإنسان، ومن المعلوم أن الإسلام قد كرّم الإنسان مهما كانت عقيدته كما في قوله تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}(1).
وحقوق الإنسان في الإسلام ترتكز على مبادئ عديدة، منها: مبدأ المساواة بين كل بني الإنسان، ومبدأ الحرية لكل البشر، والتاريخ الإسلاميّ سجّل للخليفة الثاني عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- مواجهته الحاسمة لانتهاك حقوق الإنسان وقوله في ذلك: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا“؟.
الإسلام … منطلق الحقوق والحريات
إن حقوق الإنسان في الإسلام تنبع أصلاً من العقيدة وخاصة من عقيدة التوحيد، ومبدأ التوحيد القائم على شهادة أن لا إله إلا الله، هو منطلق كل الحقوق والحريات، لأن الله تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد خلق الناس أحراراً ويريدهم أن يكونوا أحراراً، ويأمرهم بالمحافظة على الحقوق التي شرعها والحرص على الالتزام بها، والإنسان في الإسلام صاحب مركز خاص في الكون من حيث أصل خلقته: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}(2)، ومن حيث مكانته في الأرض ورسالته:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}(3)، ومن حيث قدراته وملكاته واستعداده:{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا}(4)، ومن حيث مسئوليته عن عمله:{وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا سَعَى}(5)، وعدم مؤاخذته بجريرة غيره:{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)(6).
هكذا أنصف الإسلام الإنسان وكشف عن جوهره الفريد، ومركزه في الكون ورسالته في الحياة، فحقوق الإنسان في الإسلام تنبع من التكريم الإلهي للإنسان كما جاء في كتاب الله وسنة رسوله.
إن أكرمكم عند الله أتقاكم
إن الإسلام لا يُمَيِّز بين إنسان وآخر، لا في العرق ولا في الجنس ولا في النسب ولا في المال، كما جاء في خطبة حجة الوداع أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ( أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، كُلُّكُمْ لآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ )(7)، وعند دراستنا لهذا التوجيه النبوي نلاحظ المساواة الكاملة بين الناس، فالناس كلهم أولاد آدم فلا فضل لإنسان على إنسان كما جاء في قوله سبحانه وتعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(8)، وهذه القاعدة يتساوى في ظلها الناس على اختلاف منابتهم وأصولهم، فكلما كان المرء أتقى لله، كلما ارتفع قدره وَسَمَا نجمه في المجتمع الإسلامي.
لقد سبق الإسلام دعاة حقوق الإنسان في العالم بقرون عديدة بإلغاء التفرقة العنصرية، والنظر إلى الناس نظرة المساواة التامة التي لا تعرف التمييز والتفريق الذي عانت منه البشرية في مختلف عصورها، ورحم الله القائل:
النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّكْوِيْنِ أَكْفَاءُ أَبُوهُـمُ آدَمُ والأُمُّ حَــــوَّاءُ
فَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ أَصْلِهِمْ نَسَبٌ يُفَاخِرُونَ بِهِ فَالطِّينُ وَالمَاءُ
حماية حقوق الإنسان من مقاصد الشريعة الإسلامية
من المعلوم أنَّ ديننا الإسلامي الحنيف هو أول من نادى بحقوق الإنسان وشدَّد على ضرورة حمايتها، فقد كان الإسلام سبّاقًا إلى الإقرار للإنسان بحقوقه، وإلى الحثِّ على صوْنِ هذه الحقوق وحفظها منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، فالإسلام هو أول من قرر المبادئ الخاصة بحقوق الإنسان في أكمل صورة وأوسع نطاق، كما عمل على إحاطة هذه الحقوق بالرعاية وشمولها بالعناية، مع العلم بأنَّ الشريعة الإسلاميَّة الغراء تحتفظ بكونها أسبق وأعمق وأشمل من أيَّة قوانين وضعية.
ومن الجدير بالذكر أن كلَّ دارس للشريعة الإسلامية يعلم أنَّ لها مقاصد تتمثل في حماية حياة الإنسان ودينه وعقله وماله وأسرته، فمن أول مقاصد الشريعة الإسلاميّة صيانة الأركان الضروريَّة للحياة البشرية وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وقد بيَّن الإسلام الأحكام الفقهية التفصيليّة التي تُمَثِّل سياجًا لصيانة هذه الضرورات وكيفيّة حمايتها والمحافظة عليها، حيث ذكر الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه “المستصفى” أنَّ حرمة الضرورات الخمس لم تُبَحْ في مِلَّة قط، وقال بذلك الإمام أبو اسحق الشاطبي في كتابه “الموافقات في أصول الشريعة”، ومن المعلوم أنَّ هذه الأمور لابُدَّ منها لإقامة الحياة الصالحة، فإذا فُقِدَ بعضها انهارت الحياة الإنسانيّة أو اختلت وفسدت.
لقد حرص الإسلام عبر تاريخه المشرق على مراعاة حقوق الإنسان وضرورة صيانتها، وستبقى تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف وخصائص شريعتنا الغراء ثابتة كالطود الأشم، لن تهزها عواصف هوجاء ولا رياح عاتية.
مبادئ حقوق الإنسان في الإسلام
ترتكز حقوق الإنسان في الإسلام على أربعة مبادئ عامة، وهي: تكريم الله سبحانه وتعالى للإنسان، وحرية الإنسان، والمساواة بين الناس، وإقامة العدل ومنع الظلم.
ومن خصائص ومميزات الحقوق في الإسلام أنها حقوق شاملة لكل أنواع الحقوق، سواء الحقوق السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية، فحقوق الإنسان في الإسلام حقوق شمولية للجنس الإنساني كله ولا ترتبط بجنس الفرد أو عنصره، ويوم طُبّق الإسلام عمَّ نوره الكون وانتشر العدل على وجه الأرض، ورأينا أن عامل الزكاة وقتئذ كان يجمع الزكاة فلا يجد فقراء يستحقونها، وهذا يدل على أوضاع المسلمين الطيبة وقتئذ، حتى أن عمر بن عبد العزيز كان يأمر عامله أن ينادي أين الغارمون؟ أين الذين يريدون الزواج؟
وقد يتوهم متوهم بأن الأوضاع الطيبة والمعاملة الحسنة من المسلمين كانت مقصورة عليهم، فنقول: إنها ليست مقصورة على المسلمين، بل شملت غيرهم من أهل الكتاب والبلاد المفتوحة.
فقد روى أبو يوسف في كتاب الخراج: أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مرّ بباب قوم وعليه سائل يسأل، وكان شيخاً ضرير البصر من أهل الكتاب، فقال: ما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: اسأل الجزية والحاجة والسن، فأخذ عمر بيده، وذهب به إلى منزله وأعطاه مما وجده! ثم أرسل به إلى خازن بيت المال، وقال له : “انظرْ هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه إذْ أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم، إنما الصدقات للفقراء والمساكين، والفقراء هم الفقراء المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب”، ثم وضع عنه الجزية، فهذه العاطفة التي جاشت بالرحمة في نفس عمر-رضي الله عنه- نحو هذا الكتابي نبعت من قلب متحمس للإسلام، متمسك بمبادئه، وقد كان عمر- رضي الله عنه- شديداً في دين الله، ولكن الشدة التي عُرِف بها لا تعني التعصب الأعمى والضغينة القاسية على المخالفين للدين من أهل الكتاب الأولين.
فالإسلام يحافظ على حقوق الناس جميعاً بغض النظر عن دينهم أو جنسهم أو لونهم، وكذلك كان المسلمون على مرّ التاريخ، كما قال الشاعر:
مَلَكْنَا فكانَ العفوُ منَّا سجيّةً فَلَمَّا مَلَكْتُم سالَ بالدّمِ أَبْطـُحُ
فَحَسْبُكُم هذا التفرُّقُ بينَنَـا وكلُّ إناءٍ بالذي فيه يَنْضَــــحُ
تلك هي طبيعة المجتمع المسلم، فهذا ديننا وتلك تعاليمه، وهذه أمتنا وذلك ماضيها، وهذا هو العالم وحاضره الذي يعيش فيه، وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه، وهذا مِلْحٌ أُجَاج.
أما آن للبشرية التائهة أن تعود إلى الأصل، إلى الحق، إلى سفينة النجاة التي تقودها إلى حياة كريمة سعيدة، إلى كتاب الله وسنة رسوله، فهما مصدرا الخير والحق.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
الهوامش:
1- سورة الإسراء الآية (70).
2- سورة التين الآية (4).
3- سورة البقرة الآية (3).
4- سورة البقرة الآية (31).
5- سورة النجم الآية (39).
6- سورة الإسراء الآية (15).
7- أخرجه الترمذي.
8- سورة الحجرات الآية(13).