بيـــن منهـــج النبــــوة وتحـــولات القيــم الحضــاريــة مقاربـــة في أسئلــــة الانتمـــــاء

أ.د. عمر أحمد بوقرورة /
الباحثون بالصيغة الإسلامية يواجهون – في حاضرنا – مشكلات حضارية معقدة أخطرها الإثنية الحضارية المشكَّلة في طرفها الأول بانتماء إلى الإسلام وإلى نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم هذا الانتماء الذي يبدو بثقل معرفي وحضاري وديني وسلوكي غير مصفىَّ، أما الطرف الثاني فأساسه حاضر المسلمين ومستقبلهم، فأما الحاضر فعليل وأساس علته خلل حضاري آل بالمسلمين إلى التخلف والتشرذم والانقسام الديني والطائفي والمذهبي والجغرافي، وأما المستقبل فغائبة ملامحه في أذهان المسلمين الذين يعجزون باستمرار عن امتلاك المنهج الحضاري السليم الذي يمكّنهم من امتلاك قراءات مستقبلية تمنحهم الحضور الإيجابي بين الأمم، ذلك الحضور الإيجابي الذي يضمن الانتماء الحضاري السليم إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما يضمن العبور الإيجابي نحو عالم الشهادة، فدونه يغدو الانتماء كما يغدو العبور المذكور حلما، حيث يستقر فعل الانتماء نفسه في المستوى الأدنى الذي يجعل المسلمين يكتفون بالتواصل مع زمن النبوة بالاحتفال حين ليلة المولد النبوي.
إن أهم ما نواجهه في الزمن الحضاري العربي والإسلامي المعاصر إنما يتعلق بكيفية التواصل مع زمن النبوة ومع رسالة الإسلام بصفة عامة، حيث يفترض ألا يكون التواصل مع ذلك الزمن إلا بارتجاع معرفي وبانتماء حضاري سليم نؤصل به لعناصر حضارتنا ولماهية وجودنا، بل ولماهية ولجوهر وجود الإنسانية بأكملها، تلك الماهية التي نرجوها بمركزية حضارية أساسها زمن النبوة الذي هو زمن الإسلام نفسه، الذي يتعلق بانزياح حضاري أكبر أدى إلى عودة البشرية إلى وعيها بمهمة الاستخلاف التي هي أصل المهمات في أرض الله.
وبشأن هذا الانتماء إلى الزمن المحمدي، وبشأن المتغيرات الحضارية المعقدة التي حلت بنا، والتي جعلتنا أشتاتا بين الأمم، بشأن ذلك كله نسأل عن الانزياحات والمحطات المعرفية والحضارية الكبرى التي يمكننا بها أن نؤصل لعلاقتنا ولانتمائنا السليم إلى الإسلام وإلى المنهج المحمدي، تلك المحطات التي يفترض أن تجتمع فيها القواعد المرجعية التي تُؤَسِّسُ لانتمائنا ولعلاقتنا بنبينا الكريم وبديننا الحنيف:
أهي الانزياحات والمحطات التي تجسدت بالإسلام كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؟ أم أنها الانزياحات والمحطات التي نازعها المختلف المرجعي الخاضع لتحولات معرفية وحضارية مصدرها الفعل الديني والسياسي والثقافي والاجتماعي والسلوكي المنافس الذي ساد بعد صدر الإسلام، ذلك الفعل الذي تأيد بمذاهب وملل ونحل آلت إلى التمكين للمختلف الذي غدا مرضا مستعصيا في الأمة يصعب علاجه؟ أم أنها انزياحات ومحطات بفعل حضاري نجلِّوه بمناهج ومعارف نحتكم إليها في ظل المتغيرات الحضارية الكبرى، التي تشكلت بالمعاصرة وبالحداثة، وبالمابعديات المعرفية والمنهجية التي تتزاحم في واقعنا المنهجي والمعرفي والسلوكي في بدايات القرن الواحد والعشرين، والتي تجعل الانتماء إلى زمن النبوة نفسه محل إرباك..؟!!
إن هذه الأسئلة وغيرها تبدو غاية في التعقيد، إنها الأسئلة التي نرى أنها باتت تحرج وجودنا الحضاري أصلا، هذا الوجود القلق الذي يبدو أنه يغرق باستمرار في المختلف الديني والمعرفي والمنهجي والسلوكي المركب الذي يبدو أنه لاينتهي، والغريب في الأمر أن الأسئلة التي تم تداولها طيلة القرن العشرين وما قبل ذلك لاتزال حاضرة، فهي تكاد تكون نفسها الأسئلة التي تحضر في واقع الأمة في بداية القرن الواحد والعشرين، وما حضور تلك الأسئلة من جديد إلا دليل صادم على أن الأمة لم تتقدم خطوة نحو الأمام، ومن الأسئلة ما يأتي:
1- سؤال الذات وخصوصية الهوية:
الأصل في سؤال الذات أن يكون أساسا بنائيا في موضوع الانتماء بأكمله، ذلك لأن الحديث عن الانتماء إلى محمد صلى الله عليه وسلم لا يمكنه أن يحضر أصلا إلا بحضور الذات الواعية الممسكة بزمام أمرها الديني والثقافي والمعرفي والحضاري العام، ودون هذا تنتفي عناصر الانتماء ودونه يغدو الانتماء حلما جميلا لا يمكنه أن يتحقق في واقعنا الحضاري العام.
إن موضوع الانتماء مطلوب حضوره بالوعي بالذات في إطار حركتها الواعية في دائرتها الحضارية الخاصة التي تتفاعل إيجابا مع الأزمنة الحضارية للأمة العربية الإسلامية في علاقتها بماهية وجودها وبماهية وجود الحضارات الأخرى، ذلك لأن الوعي المطلوب هنا إنما هو الإيجابي الذي يجب ألا يتمركز في الذات وألا يبقى حبيس الأنانيات القومية والإقليمية والطائفية والمذهبية قال تعالى: ﴿إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء﴾ [الأنعام 159].
إن الوعي المقصود هنا هو الوعي الذي يصدر عن مدرك إيماني أساسه المشترك البشري في المهمة الوجودية الكبرى التي هي مهمة الاستخلاف، وأن أي خلل في حضور الذات، وأي استبعاد لأسئلتها الخاصة بها إنما يؤدي يقينا إلى غياب الانتماء،ذلك الغياب الذي تنعكس آثاره السلبية على نظام الحياة بأكمله، ذلك النظام الذي لا يمكنه أن يبلغ مبتغاه بقطيعة تحدث بينه وبين عالم الذات، فالانتماء فعل حضاري أساسه المشترك المعرفي والمنهجي والسلوكي الذي يعني أن المسلم لا يمكنه أن يدعي الانتماء إلى محمد صلى الله عليه وسلم إلا إذا انخرط في الفعل الحضاري المذكور، ولا يمكنه أن يكون كذلك إلا إذا عرف ذاته.
2- سؤال الموروث “الانتماء إلى الأمة وإشكالية المورث غير المصفى”:
من أسئلة الإشكاليات الكبرى التي تتعلق بموضوع الانتماء سؤال التواصل مع الموروث الذي يحضر حين المناقشات التي تتعلق بماهية الانتماء ، فمن الأسئلة ما يلي: ما ماهية هذا التواصل مع الموروث العربي والإسلامي؟ وما حدود العلاقة بينه وبين متغيرات الراهن المعرفي العربي والإسلامي والعالمي؟ وما هي العناصر الإيجابية الكفيلة بجعل الموروث العربي الإسلامي دافعا إيجابيا نحو تفعيل التجاور والتحاور مع الذات العربية الإسلامية نفسها في إطار الزمن الحضاري المركب الذي يشمل الماضي والحاضر والمستقبل ؟ وفي إطار الانتماء نذكر أن من أسئلة الانتماء المحرجة سؤال ماهية العلاقة بيننا وبين زمن النبوة أو الزمن المؤسس لهذا الدين الجديد الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى لنا دينا خاتما بنبي خاتم بمهمة استخلافية، ومؤدى السؤال: لماذا ننهزم باستمرار ونحن نعلن في مشاهد حياتنا أننا ننتمي إلى محمد صلى الله عليه وسلم و أننا نحتفي بعيد ميلاده، ونقيم الموائد باسمه، ونتسابق في إقامة المؤتمرات، ونرصد الجوائز لكتابة المولديات والمدحيات، أليس ذلك من قبيل الخلل الحاصل في ماهية الانتماء؟؟
3- الانتماء بين سؤال الوحي وسؤال العقل:
من الأسئلة الكبرى التي تواجهنا مسلمين مفكرين ومبدعين ومثقفين وباحثين عن الحقيقة حين العلاقة بيننا وبين زمن النبوة، وبيننا وبين الإسلام، وبيننا وبين خالقنا، وحين إنجاز درس الانتماء المؤيد أصلا بحقيقة الاستخلاف (سؤال التجاور بين الوحي والعقل)، ذلك السؤال الذي يغدو أساسا فاعلا في تشكيل الرؤى والأفكار، وفي التأسيس لماهية الانتماء،ذلك لأن كل انتماء مرجو إلى زمن النبوة لا يمكن الحسم في حضوره بإيجابية تفضي إلى جعل التجاور قائما بيننا وبين ذلك الزمان إلا بالحسم في ماهية العلاقة القائمة بين الوحي والعقل، تلك العلاقة التي يفترض في العقل والوحي فيها أن يتجاورا وأن يتواصلا وأن يتفاعلا بمقدار ما يملك كل منهما من خصائص وسمات تعمل على دعم المشترك وعلى إثرائه بما يحقق الحضور الإيجابي للعقل والوحي معا، وخلاصة الأمر في موضوع الوحي والعقل أن أي انتماء يحصل بعيدا عن استحضار العلاقة بين الديني والعقلي وبينهما وبين مهمة الاستخلاف إنما يؤدي يقينا إلى المختلف والصدام وحينها ينتفي الانتماء الإيجابي إلى زمن محمد صلى الله عليه وسلم أصلا.
4- سؤال الوعي بالزمان المؤيد بالنسق الحضاري الخاضع للأمة في مسارها التطوري، وفي امتدادها التاريخي الماثل في انزياحات حضارية كبرى تؤول إلى متغيرات يجب أن يعيها كل من أراد أن يمارس الانتماء بصيغ الأمة، فنـحن لا نتصور كتابا ومثقفين ومبدعين وعلماء وفقهاء ومفكرين معاصرين يكتبون عن قضايا أمتهم بالتزام منهجي وموضوعي دون أن يدركوا كنه الأزمنة، وكنه الانزياحات الحضارية، التي مرت بها أمتهم، فالمنجزون لأسئلة المعرفة الحاملون لهمّها يعجزون عن الكتابة بالصيغ المذكورة إذا لم يتأيدوا بفهم الأزمنة ممثلة في صدر الإسلام، وفي الزمن الأموي والعباسي والأندلسي، وفي الزمن المعاصر… في علاقة تلك الأزمنة بالزمن الإنساني العام. بهذا نؤكد أن المعارف والمناهج والأفكار حاضرة بأممها وبأنساقها وبقوة وماهية المعرفي فيها، فلكي يقوم الباحث بالكتابة وبالتعامل مع زمن تاريخي وحضاري معين عليه أن يعي أن النص منتج في الأمة وفي الزمان والمكان وأنه لا سبيل إلى نص بلا سند حضاري يمنحه الرؤية ويزوده بالموقف السليم.
5- السؤال المتعلق بالانتماء المؤيد بالوعي بالعلاقة بالعالم الكوني وبعالم الشهود:
الكون آية من آيات الوجود ذاته، ذلك الوجود الذي يتحول إلى موضوع كبير ينهل منه العلماء والمفكرون والفلاسفة والشعراء وأهل التأمل في كل مصر وعصر، لكن المشكلة تكمن في سؤال العلاقة بين الوجود ذاته وبين المبدعين والمفكرين وأهل التأمل، إن بعض الباحثين بصيغ الإسلام قديما وحديثا كثيرا ما يغيب عنهم هذا السؤال الجوهري المتعلق بانتمائهم العام إلى هذا الكون الفسيح الذي هو فضاء الاستخلاف، والذي يتطلب منهم أن يكونوا شهودا على مسيرة الإنسانية بأكملها، والنتيجة خلل في ماهية الرؤية وفي جوهر الانتماء إلى الإسلام، فالذي يجب أن نفهمه في علاقتنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن هذا النبي هو خاتم الأنبياء وأنه النبي المرسل إلى البشرية كافة، قال تعالى في شأن نبيه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء 107]، وأن انتماءنا بذلك لا يكون سليما إلا إذا تأيد بإنجاز حضاري نكون فيه شهودا على المسيرة الإيجابية للإنسانية بأكملها.
إن انتماءنا إلى الإسلام هو شهادة عبورنا الحقيقي إلى الإنسانية جميعها، كما هو شهادة حضورنا الإيجابي في المشهد العالمي، لكن أن ننتمي إلى الإسلام ونعمل في الآن نفسه على إقصاء الأنا الحضارية من المشهد الحضاري العالمي بحجة أننا مختلفون، وأننا أفضل وأنقى وأطهر، من هنا تأتي الحاجة إلى ضرورة مراجعة السؤال المتعلق بالانتماء الكلي الإنساني المؤيد بالوعي بالعلاقة بالعالم الكوني وبعالم الشهود.
لقد احتكمت البشرية في انتمائها –وعلى مر العصور – إلى معتقدات وفلسفات وأفكار منحتها تعاملها مع الكون بهويات بدت بألوان وأشكال ورؤى مختلفة، فالكون في نظر الوثني وثنيات تتجلى بصورة المؤلَّه المتعدد الماثل في جزئيات الكون ذاته التي منها عبادة الشجر والحجر…والكون في نظر الدهري دائرة زمانية مفرغة تنتهي حين الموت قال تعالى: ﴿وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلاّ الدّهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون﴾ [الجاثية 24]، والكون عند الرومانسي الهارب سكن واطمئنان ومصدر إلهام…أما الكون في نظر المؤمن فهو درس من دروس المعرفة اليقينية التي تؤدي إلى معرفة خالق الكون قال تعالى: ﴿ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون﴾
[فصلت 37]. وبنظرة الإيمان هذه تحضر العلاقة السليمة بالله وبالإسلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبالبشرية جميعها.