الحـــق الـمر

علم لا ينفع…

يكتبه د. محمّد قماري/

كنت خلال السنوات الماضيّة، يتردد في نفسي سؤال لم أجد له جوابًا، بل كان يزداد إلحاحًا ورسوخًا مع مضي الأيام، ومعه تزداد حيرتي، وفحوى ذلك السؤال: لماذا يسارع أساتذة العلوم الانسانيّة والاجتماعيّة في ابعاد أبنائهم عن تلك العلوم، وأقصى ما يطمح إليه أحدهم أن يقذف بابنه أو ابنته في كليّة الطب أو الصيدلة فإن لم يجد سبيلاً لذلك دفع به إلى طريق الهندسة أو أي طريق آخر يبعده عن الدراسات الانسانية والاجتماعية، حتى مع وجود رغبة عند الأبناء!
وهي ظاهرة قديمة، فأغلب من عرفت من أفراد جمعيّة العلماء المسلمين التاريخية هجروا تلك التخصصات أو أبعدهم آباؤهم عنها، وهم يعرفون قبل غيرهم خطر تلك المعارف، ويدركون أهميتها في صياغة حاضر المجتمعات ومستقبلها.
ومنذ بديات تشكل وعيي، أدركت أن القفزات الكبرى في تاريخ الأمم إنما كانت نتاجا لبنات أفكار فلاسفة وأدباء ومفكرين، استطاعوا النفاذ إلى احتياجات أممهم، وعبروا عنها بأقلامهم وجاءت إبداعاتهم وأبحاثهم، استجابة لسد ثغرات حينا وطرح أفكار بانية حينا آخر، فساهموا في تأطير حركية مجتمعاتهم نحو الوجهة المجديّة، فالطبيب أو المهندس قد يفيد أسرته أو مجتمع الضيق لكن أثره يبقى محدودًا إلا في حالات نادرة كما يحدث مع بعض المكتشفين العباقرة.
لقد استطاع (فكتور هيجو) وهو أديب أن يستميل جمهور الفرنسيين إلى كنيسة (نوتردام) بروايته الشهيرة (أحدب نونتردام)، وقد شيّدت قبل ميلاده بقرون عديدة، لكنه أدرك ضعف روح التدين التي بدأت تسري في المجتمع الفرنسي، وأدرك أن فرنسا يجب أن لا تغفل عن دورها التاريخي لأنها كانت طريقا تأوي الحجاج القاصدين كنيسة القيامة في كنيسة (نوتردام)، وأن قسس كنائسها في ليون كانوا الداعين الأوائل للحروب الصليبية.
وبعد خروج رواية هيجو بقليل تنادى المجتمع الفرنسي لاعادة تأهيل نوتردام، وجمعت لها أموال من تبرعات الفرنسيين وغيرهم، وأصبحت معلمًا متميزا في باريس ومحجا لملايين السواح يقصدونها من القارات الخمس، وكادت قبل رواية (أحدب نوتردام) أن تكون نسيا منسيا.
ولا تزال إلى اليوم ابداعات الأدباء، ومقالات الصحافيين النابهين، ونظريات الفلاسفة واستشرافات المؤرخين مصدرا من مصادر صنع القرار ورسم الخطط الاستراتيجية، فقصة القرصان (مورغان) أشعلت في ذهن صانع القرار الأمريكي، أن الامبراطورية الحديثة تراقب ما يجري من أحداث وتجاذبات القوى الفرعية لتحولها لانتصارات و(غنائم) تساق إليها بعد انهاك تلك القوى!
والتفت حولي في كلياتنا الجامعيّة، وأحاول فحص محتوى ما يقدم لطلابنا، سواء في العلوم الانسانيّة أو الاجتماعيّة، فأرى فراغًا رهيبا يجعل الطالب يزهد في ذلك المحتوى، وينغمس في مسلك الظفر بشهادة لا تقر بالمستوى العقلي والإدراكي لحاملها، بل إنها تجعل الأجيال الصاعدة تنفر من المغامرة في ذلك الطريق الموحش…
إن ترديد نظريات يحفظها الأساتذة أو الطلبة، وعلى شاكلة مشوهة، في علم معين لا تجعل منهم علماء في ذلك الفن، بل تسهم في تضخيم جمهور (ممسوخ) القدرات الفكرية والمعرفية، فلا يقدر على تجاوز ما عرفه بـ(التلقين)، كما أنه لم يدرب على التفكير الحر الذي يرصد الظواهر ويحاول تفكيكها وتحليلها وتركيبها.
وذلك لعمري، هو العلم الذي لا ينفع الذي استعاذ منه نبينا، صلى الله عليه وسلم، حيث تقطع سنوات من أخصب سنوات عمر الإنسان في ما يشبه (دور حضانة الكبار)، فكل ما يرجى منها أن يشغل وقتا داخلها حتى يرجع إلى بيته.
إن التعليم الذي لا يسهم في تشكيل العقول والعواطف، ولا يدفع في طريق الملاحظة والاختبار، ولا يغرس في المتلقي روح الاستثمار فيما تعلم بنيّة البناء عليه وتجاوزه هو تعليم (أعمى)، ربما أخرج بعض أجهزة التسجيل الرديئة، لكن لا يرجى منه نفع المجتمع أو الاسهام في رصد مشكلاته ومحاولة ايجاد الحلول لها…
وكم هو محزن حقا مساهمة هذا النمط من التعليم في تكريس النفور من الكتاب، وزرع الخصومة بين المتعلمين ورفوف المكتبات، وتكريس روح (التكاذب) باسم العلم، ينتهي في الغالب بشهادة صاحبها يشهد حاملها قبل غيره أنها شهادة (زور) يتحلى بها في الظاهر ويرفضها في قرارة نفسه.
وإذا كانت الغاية قبل سنوات من التهوين من أمر العلوم الانسانية والاجتماعية مادية، فسوق العمل مفتوحة أمام التخصصات التقنية أكثر من غيرها، فإن الزهد فيها في السنوات الأخيرة مرده إلى ذلك الفراغ الرهيب في (المحتوى)، فأغلب الخريجين يشعرون بخواء فاضح يجعل منهم أمثلة لا تحتذى.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com