في ظلال السنة النبوية الشريفة: لا تَحقِــــرَنَّ مِنَ المَعْــــرُوف شَيْئًا(2)

أ.د/ مسعود فلوسي/
روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَحقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوف شَيْئًا، وَلَو أنْ تَلقَى أخَاكَ بوجهٍ طلقٍ». هذه وصية خص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه أبا ذر الغفاري رضي الله عنه.. هي كلمات بسيطة ولكنها تحمل معاني عميقة، إنها وصية جامعة لكل خير وشاملة لكل معروف، من أخذ بها سعد في الدنيا وفاز في الآخرة.
فعل الخير شيمة المؤمن
المؤمن معنيٌّ دائما بفعل الخير، ولا يدري الإنسان المؤمن متى يحتاج إلى هذا الخير، فلا ينبغي له أن يقول مثلا ما دمت أصلي فأنا في الجنة، ليس هناك ضمان لأي أحد أنه سيدخل الجنة، والله تعالى يقول لنا: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}، ولكي تكون مسارعا لابد لك من التحضير، لابد لك من القوة والصحة، وكل ذلك إنما يأتي من فعل الخير، من كثرة الحسنات:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}[الواقعة: 10-11]، فليس من يسبق كمن يمشي مشية السلحفاة أو كمن يبقى في مكانه لا يتحرك ويكتفي بالأماني أن يكون من أهل الجنة دون أن يقوم بأي عمل وليست له نية لفعل الخير إطلاقا.
فالمؤمن حريص على فعل الخير، مشارك في أفعال الخير، مسابق إلى كل خير، ناوٍ لفعل الخير دائما.
المؤمن يتاجر مع الله
مشكلتنا نحن المسلمين اليوم أننا نقيِّم كل شيء بالمادة، فصار معظم الناس لا يفعلون الخير لأنهم لا يرون ما يرجع إليهم من هذا الخير إذا فعلوه، حتى إن أحدهم شكر أحدا وقال له: رحم الله والديك، فرد عليه: بكم يمكن تصريف هذه العبارة؟ فأنا لا أريدها، أريد بدلا منها مالا.
أرأيتم إلى أين وصلنا؟ هل هذا مؤمن؟ أين الإيمان؟
المؤمن يتاجر مع الله، وليس مع العبد، فإذا فعلت الخير مع إنسان فلا تنتظر منه أن يعيده إليك أو يكافئك عليه، بالعكس توقع منه الشر، لكن لا تندم لأنك فعلت الخير، لأنك لم تفعله لأجل فلان، صحيح أن هذا الخير استفاد منه فلان، لكنك لم تقصد به هذا الفلان، إنما قصدت به وجه الله عز وجل، ولذلك اطلب ثمن عملك عند الله، وبما أنك بعت نفسك لله فثمن الخير الذي فعلته تجده عند الله عز وجل، لا تنتظر أن تجد فائدة عملك في الدنيا. ومع ذلك فإن هذه الفائدة تأتيك فعلا في الدنيا، فالله سبحانه وتعالى يعطيك – في مقابل ما تفعله من الخير – خيرا كثيرا لا تعرفه أنت ولا تشعر به أصلا، يعطيك الصحة والأمان والاستقرار ويوفر لك موردا للرزق ويهبك بيتا وسيارة وزوجة وأولادا وغير ذلك من النعم، فكل هذا خير من الله عز وجل، لكن المكافأة العظيمة لنا تكون هناك في الدار الآخرة.
على المؤمن أن يعرف هذه الحقيقة، لا تنتظر أن تجد ثواب عملك في الدنيا، لا تنتظر إذا فعلت الخير في مكان معين أن يرجع إليك منه كفاء ما فعلت، أنت تتاجر مع الله لا مع الناس، والله عز وجل ضمن لك ثواب عملك في الآخرة، لأن العبرة فيما يدوم، والدنيا لا تدوم، فلو أن الله وفاك ما عملته من خير في الدنيا فسيذهب ولا تجده فيما بعد، وما دام سيذهب فهو غير نافع، لكن إذا بقي إلى الآخرة فإنه لا يذهب ولا يزول، بل يبقى، والعاقل من يحرص على ما يبقى لا على ما يفنى، فما يفنى لا تحتاج إليه، بينما ما يبقى ويدوم هو ما تحتاجه فعلا.
المؤمن العاقل إذن هو من يحرص على الخير في علاقته مع الله؛ في صلاته وزكاة ماله وصومه وحجه وذكر الله والاستغفار وحمد الله آناء الليل وأطراف النهار، وقراءة القرآن وصلاة ما أمكنه من النوافل والتصدق بما أمكنه من المال وصوم ما استطاع من الأيام ويحج ويعيد الحج إذا استطاع. وأن يفعل الخير مع الناس بقدر ما يستطيع؛ يتصدق، يعين فيما يمكنه من الأعمال، يسعى في الإصلاح بين الناس، ينصح الناس، يرشد التائه، يأخذ بيد الضعيف، يعين كبير السن، يعمل الخير بقدر ما استطاع، ولا ينتظر شيئا من الناس.
فالإنسان العاقل المؤمن الصادق مع نفسه ومع ربه عز وجل هو الذي يفعل الخير لله ولا يرجو سوى ثواب الله سبحانه وتعالى.
كثرة أبواب الخير
وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث عديدة أن أبواب الخير كثيرة، ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» [متفق عليه]، ومنها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نفَّسَ عن مؤمِنٍ كُرْبَةً من كُرَبِ الدنيا نَفَّسَ اللهُ عنهُ كربةً من كُرَبِ يومِ القيامة، ومن يسَّرَ على مُعسرٍ يسَّرَ اللهُ عليهِ في الدنيا والآخرة ومن سترَ مُسلِمًا سترهُ اللهُ في الدنيا والآخرة، واللهُ في عوْنِ العبدِ ما كانَ العبدُ في عوْنِ أخيهِ. ومن سلَكَ طريقًا يلتمسُ فيهِ علمًا سهَّلَ اللهُ له به طريقًا إلى الجنة. وما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللهِ يتلونَ كتابَ اللهِ ويتدارسونَهُ بينهم إلاَّ نزلتْ عليهمُ السكينةُ وغشيتهم الرحمةُ وحفَّتهم الملائكة وذكرهمُ اللهُ فيمن عندهُ. ومن بطَّأ بهِ عملُهُ لم يُسْرِعْ بهِ نسبُهُ».
لا يدري المؤمن أي معروف ينفعه
وكما أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تحقرن من المعروف شيئا».
يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن رجلا كان يمشي ووجد غصن شجرة مكسور مرميا في الطريق، فنظر إليه وقال في نفسه: أزيل هذا الغصن من الطريق حتى لا يؤذي أحدا من الناس، فهذا الموقف أو الفعل كان سببا لأن يدخل هذا الرجل الجنة، عمل بسيط جدا، وقد يكون هذا الرجل له سيئات كثيرة ولكن هذا الفعل الخير الذي نواه لله عز وجل ونوى فيه النفع للآخرين، فرب العالمين احتسبه له وأدخله به الجنة، وقد يكون هو فعل الخير الوحيد الذي فعله في حياته، قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}[المزمل: 20].
عَنْ أَبِي هُرَيرةَ رضيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: «لقد أُرِيتُ رجلًا يتقلَّبُ في الجنَّةِ في شَجَرةٍ قطعَها مِنْ ظَهْرِ الطريقِ، كانت تُؤذِي المسلِمينَ»[رواه مسلم]. وفي روايةِ: «مرَّ رجلٌ بِغُصنِ شَجَرةٍ علَى ظهرِ طريقٍ، فقَالَ: واللهِ لأُنَحينَّ هذا عَنِ المسِلمينَ لا يُؤذِيهم، فأُدْخِلَ الجنَّةَ». وفي روايةٍ لهما: «بينما رجلٌ يمشِي بطريقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوكٍ علَى الطريقِ فأَخَّرَه فشَكَر اللهُ له فغَفَرَ له».
وفي حديث آخر عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ» وفي رواية لمسلم: «قال اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ» [رواه البخاري ومسلم].
وفي حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بينما كلب يُطِيفُ بركِيَّةٍ [بئر] كاد يقتله العطش، إذ رأتْه بغيٌّ مِن بَغايا بني إسرائيل، فنزعت مُوقَها فسَقَتْه، فغُفرَ لها به» [رواه البخاري ومسلم]، فقد غفر الله أعمالها السيئة بهذا العمل، بهذه الرحمة التي في قلبها تجاه مخلوق من مخلوقات الله عز وجل.
فلا يدري الإنسان ما العمل الذي سينقذه من النار، والعاقل هو الذي يسعى في إنقاذ نفسه من النار ودخول الجنة، قال تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}[آل عمران: 185]..
السبيل الوحيد إلى ذلك هو فعل الخير وكف الشر، فإذا لم تستطع فعل الخير فعلى الأقل انوه، فإذا كنت فقيرا ولم يكن لك مال فقل في نفسك: يا رب لو ترزقني مالا فسأتصدق به وسأبذله في كل باب من أبواب الخير.
وإذا كنت ضعيفا وليست لك قوة، فقل في نفسك: يا رب إذا منحتني القوة فسأفعل العمل الفلاني والعمل الفلاني مما يحتاج إلى القوة.
ففعل الخير ونية الخير هما السبيل إلى نوال رضوان الله تعالى والفوز بجنته والنجاة من عذابه، قال تعالى: {وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون}[الحج: 77].
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما.