تجريد القرآن من سلطته الاجتماعية
أ.د. عبد الملك بومنجل/
يقرأ المسلمون في قرآنهم قولَ ربهم عن نفسه: ((ألا لَهُ الخَلْقُ والأَمْرُ). ويقرأون آياتٍ كثيرةً تنصُّ على منهجٍ في إدارة شؤونهم الاجتماعية، وعلاقاتهم الداخلية والخارجية، ويرددون عبارة مشهورة لأحد كبار خلفائهم الراشدين: «إن الله يَزَعُ بالسلطان ما لا يَزعُ بالقرآن».
ولكن «التنويريين» العرب يتجاهلون كل ذلك، ويجتهدون في إبطال هذه السلطة الاجتماعية السياسية للقرآن، ليفصلوا بين المسلمين وإسلامهم، ويدَعوا الإسلام تحت رحمة مناهجَ أخرى في تصور الوجود وتنظيم الحياة؛ وهو أمر مناقض لمراد الله المتجسد في آيات كتابه، ومناقض لبديهيات العقل وحقائق التاريخ. وقد كنت ذكرت أن علي عبد الرازق قد ارتكب جملة مخالفات منهجية في كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، والآن أذكر مخالفات منهجية أو علمية أخرى:
المخالفة العلمية الثالثة أنه زعم أن ولاية محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن مشوبة بشيء من الحكم، وأنه ما تعرض لشيء من سياسة تلك الأمم الشتيتة التي وجدها الإسلام، «ولا غيّر شيئا من أساليب الحكم عندهم، ولا مما كان لكل قبيلة منهم من نظام إداري أو قضائي.. ولا سمعنا أنه عزل واليا، ولا عيّن قاضيا».
وهذه مخالفة صريحة لوقائع التاريخ، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد شكّل أمة متميزة موحدة في المدينة كانت بمثابة الدولة، وعقد وثيقة سياسية في وحدة المسلمين، وموقع اليهود في هذه الأمة وعلاقتهم بها، واعتماد الكتاب والسنة مرجعا فيما يحدث من خلاف، كانت بمثابة الدستور. وقد قاد بنفسه الجيوش، ونفذ بنفسه الحدود، وعيّن بنفسه الولاة والقضاة، وكانت حياته كلها بناء للأمة وإقامة للحكم، وسياسة لمختلف شؤون الحياة.
أما المخالفة العلمية الرابعة فهي أنه يزعم أن ليس القرآن والسنة وحدهما يمنعان من الاعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو مع رسالته الدينية إلى رسالة سياسية، ولكن حكم العقل أيضا وما يقضي به معنى الرسالة وطبيعتها. والحقيقة أن العكس هو الصحيح، فليس القرآن والسنة وحدهما يقضيان بالرسالة السياسية للإسلام، ولكن حكم العقل أيضا، ومعنى الدين وطبيعته كذلك.
يقول محمد عمارة: «وإذا كانت «الليبرالية» مثلا لا تقيمها إلا «سلطة ليبرالية» و«الاشتراكية» لا تقيمها إلا «سلطة اشتراكية» و«الفاشية» لا تقيمها إلا «سلطة فاشية» فإن «الشريعة الإسلامية» لا تقيمها إلا «سلطة– أي دولة– إسلامية» ووجوب إقامة «الشريعة» يستلزم «وجوب» إقامة «الدولة الإسلامية» التي تقيمها. تلك هي بداهة المنطق، ومنطق البداهة في وجوب «إسلامية الدولة» طالما كانت هناك «شريعة إسلامية» واجبة الإقامة والتطبيق والتنفيذ في الاجتماع الإسلامي»، «وإلا، فهل يتصور عاقل أن أحكام الشريعة وقوانينها- في الحرب والسلم– والزكاة– وفي القصاص والحدود- إلخ… قد نزلت لمجرد الإبلاغ والعلم؟!».
ويقول سيد قطب:
«ليس من طبيعة «الدين» أن ينفصل عن الدنيا، وليس من طبيعة المنهج الإلهي أن ينحصر في المشاعر الوجدانية، والأخلاقيات التهذيبية، والشعائر التعبدية، أو في ركن ضيق من أركان الحياة البشرية، ركن ما يسمونه «الأحوال الشخصية».
وليس من طبيعة «الدين» أن يفرد الله– سبحانه– قطاعا ضيقا في ركن ضئيل– أو سلبي– في الحياة البشرية، ثم يسلم سائر قطاعات الحياة الإيجابية العملية الواقعية لآلهة أخرى وأرباب متفرقين، يضعون القواعد والمذاهب، والأنظمة والأوضاع، والقوانين والتشكيلات على أهوائهم دون الرجوع إلى الله!.
ليس من طبيعة «الدين» أن يشرع طريقا للآخرة، لا يمر بحياة الدنيا طريقا ينتظر الناس في نهايته فردوس الآخرة عن طريق العمل في الأرض، وعمارتها، والخلافة فيها عن الله، وفق منهجه الذي ارتضاه!».
ومع أن هذه الحقيقة من البداهة والوضوح بحيث يصير الإلحاح على إثباتها لونا من إضاعة الوقت، فإن تيار الحداثة ظل يتلقف كتاب علي عبد الرازق بالإشادة والاحتفاء الكبيرين، وظل يعده طليعة التنوير العقلي العلماني. وكان طه حسين ثم تلميذه جابر عصفور من أكثر دعاة الحداثة حماسة له ودفاعا عن أفكاره. وكان عصفور من الحرص على نصرة العلمانية بحيث تمثل بأقوال فرح أنطون وجوّز قوله أن الأديان وجدت لتدبير شؤون الآخرة لا الدنيا دون تعقيب ولا إبداء ملاحظة، وكأن العقل والعلم والتجريب أثبتت صحة هذا القول، وكأن الشك والسؤال وعدم التسليم والتقليد لا تصلح أن تتخذ منهجا إلا في التعامل مع الدين، وكأن أنطون هو الأصلح بأن يعلم المسلمين حقائق دينهم!!.