المعلم في عيده…لا بارك الله في دنيا بلا دين

أ. لخضر لقدي/
لا يخفى على عاقل منزلة العلوم النافعة في ديننا، فالعلم يورث خشية الله تعالى ويهذب النفس ويبصر المرء حقائق الأمور، وهو النور الذي يبدد ظلام الجهل، والقوة التي تنفي الذلة، والعزة التي تطرد المهانة، وبالعلم تزداد العقول هدى ورشدا، وترتقي النفوس فتمتلئ ثقة وعزما، من أوتي العلم فقد حزم أمره وكمل له عقله ورصن فهمه ومتن قوله وجمع من الخير الكثير يقول سبحانه وتعالى:{ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبَابِ}.
ومن تأمل قول الله تعالى:{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} فاطر، وجد أنها جاءت في سياق الكلام عن النظر في آيات الله الكونية: عن المطر وإنزاله، وعن النبات وأنواع الثمار وألوانها، وعن الجبال والناس والدواب والأنعام… وهي آيات تشير إلى علوم شتى: علم نزول المطر، وعلم النبات، وعلم الجيولوجيا، وعلم سلوك الإنسان والحيوان …{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ}. فاطر.
والعلماء هنا هم الذين يعرفون هذه الأشياء ويدركون حقيقتها وأسرارها وأنها مظهر من مظاهر قدرة الله وبديع صنعه سبحانه وتعالى، ومن هنا يتضح لنا أهمية العلوم الدنيوية النافعة.
ورفعة الأمم والأفراد إنما تكون بمقدار ما عندها من علم نافع، ويكون انحطاطها بقدر ما فيها من جهل وضياع.
ولذلك كانت العلوم الدنيوية، كالطّبّ والفيزياء، والكيمياء والرّياضيّات، والهندسة والميكانيكا، وعلوم الحاسوب والتكنولوجيا، والبناء والملاحة، وغيرها مما ينفع الإنسان في حياته، ويستفيد منها الناس ويحتاجونها من الواجبات الكفائيّة.
وينبغي أن لا يترك المسلمون العلوم الدنيوية بدعوى الانشغال بالدين، وألا يتركوا العلوم الشّرعية بدعوى الانهِماك في الدنيا، ومن تأمّل دعاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم : اللَّهُمَّ أصلِحْ لي ديني الَّذي هو عِصْمة أمري، وأصلِحْ لي دنياي التي فيها معاشي.
علم أهمية العمل للدين والدنيا معا، وكما يقول سيدنا علي رضي الله عنه:
ما أَحسَنَ الدين وَالدُنيا إِذا اِجتَمَعا * لا باركَ اللَهُ في دُنيا بِلا دينِ
وفي أبجد العلوم: عن علي رضي الله عنه: العلوم خمسة: الفقه للأديان، والطب للأبدان، والهندسة للبنيان، والنحو للسان، والنجوم للزمان.
وقد فهم المسلمون الأوائل هذه الحقيقة وعملوا بها، والتاريخ الإسلامي زاخرٌ بالإنجازات العلميّة، فقد برز الخوارزمي في الجبر، وسطع نجم جابر بن حيان في الكيمياء، وابن هيثم في الفيزياء، وابن النفيس وابن سينا في الطب… وغيرهم كثير كثير. .
وتكفي شهادة المستشرق البريطاني توماس ارنولد: «كانت العلوم الإسلامية وهي في أوج عظمتها تضيء كما يضيء القمر، فتبدد غياهبَ الظلام الذي كان يلف أوربا في القرون الوسطى».
وامتاز علماؤنا رحمهم الله بالموسوعية والشمولية في المعارف، فهذا المازري الإمام المالكي كان فقيها محدثا مؤرخا أصوليا طبيبا أديبا، وكان متقنا للحساب وعلم الميقات، وألف في الرياضيات كتاب المناظر في الرياضيات، وفي فيزياء البصريات كتاب الاستبصار في مدارك الأبصار، وكان رحمه الله حسن الخلق مليح المجلس أنيسه كثير الحكايات وإنشاد قطع الشعر وكان قلمه بالعلوم أبلغ من لسانه.
ومن الطرائف أن المازري مرض يوما فلم يجد من يداويه سوى طبيب يهودي، قال له بعد أن عالجه: «يا سيّدي مثلي يُطَبِّبُ مثلكم وأيّ قربة أجدها أتقرّب بها في ديني مثل أن أُفْقِدَكُمْ للمسلمين».
فتنبّه الإمام المازري حينئذ إلى ضرورة النظر في علم الطّب، والحذق في فنه وميدانه، والاعتناء بكتبه والاطّلاع عليها، وأخذته الحمية واشتغل به، فكان يفزع إليه في الطب كما يفزع إليه في الفتيا. ذكر ذلك كثير ممن ترجم للمازري رحمه الله.
وهذا الإمام القرافي يقول الذخيرة : وكم يخفى على الفقهاء والحكّام الحقّ في كثير من المسائل بسبب الجهل بالحساب والطب والهندسة، فينبغي لذوي الهمم العليَة أن لا يتركوا الاطّلاع على العلوم ما أمكنهم ذلك….
(فَلَمْ أرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ عَيْبًا … كَنَقْصِ الْقَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ). انتهى.
فمتى يتنبه بعض ناشئتنا إلى الصواب المغمور والعلم المهجور من علوم الدنيا النافعة؟ ومتى يتنبه معلمونا فيغرسوا هذه المعاني في نفوس الناشئة؟ ومتى يؤدي المجتمع حق المعلم الذي قال فيه شوقي:
قُـم لِـلـمُـعَـلِّمِ وَفِّـــــه التَبجيـــــلا ** كـادَ الـمُـعَـلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا
أَعَـلِـمتَ أَشرَفَ أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذي ** يَـبـنـي وَيُـنشِئُ أَنفُساً وَعُقولا