ليتفكروا

عوائق النهضة: ثقافة «التكديس»

د. بدران بن الحسن */

إن تحقيق النهضة عملية بنائية منظمة، تحتاج رؤية واضحة وأفكارا، كما تحتاج إلى زمن بمعناه الاجتماعي، وعمل مستمر، وتدرج في تحقيق الأهداف، لنصل إلى نتائج لهذه السيرورة؛ متمثلة في منتجات مادية ومعنوية تجعلنا نعيش النهضة الحضارية واقعا.
وليست النهضة توجها إلى متجر الحضارة المعاصرة، وشراء منتجاتها، وتكديسها في بلداننا، والتظاهر باننا حققنا نهضتنا الحضارية المنشودة، ذلك أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها وليس العكس.
ولعل من معيقات النهضة الحضارية في بلدان المسلمين هو هذا التوجه إلى التكديس بدل البناء. فقد طغى على تفكيرنا «عالم الأشياء» حتى أعمى بصيرتنا وجعلنا نغفل عن تحقيق البناء المرحلي التكاملي، وأبدلناه بتكديس منتجات الحضارة إلى جنب بعضها البعض (منتجاتها المادية والمعنوية)، معتقدين أن هذه المنتجات هي التي تصنع الحضارة، في حين أن العكس هو الصحيح، بحيث أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها. فلا يمكن بأي حال من الأحوال لركام من المتناقضات التي جُمعت بشكل فوضوي رغم تنافرها أن تسهم في بناء حضارة، أو بالأحرى السير قدما بمجتمع استيقظ من نومه الذي دام عدة قرون، نحو دروب التحضر (لعاطف، 2008، 42).
كما لا يمكن أن يكون هناك جمع عشوائي لمنتجات حضارة للحصول على حضارة، لأن الحضارة تقوم على قانون البناء لا على التكديس (بن نبي، مشكلة الأفكار، ص70). فلكي نبني نهضة حضارية ونحقق تنمية توفر لنا العيش الكريم، والسيادة، ومنافسة الأمم على قيادة الإنسانية، لا يكون ذلك بتكديس منتجاتها، وإنما بأن نحل مشكلاتها الأساسية (الخطيب،1993، ص80).
وقد يعتقد بعضنا ان التكديس ومراكمة المنتجات يكون للجانب المادي فقط، وللتقنيات، أو «عالم الأشياء» فحسب. ولكن الحقيقة كما يقول مالك بن نبي أن ظاهرة التكديس تشمل مراكمة وتكديس الأشياء والأفكار والأشخاص (بن نبي، قضايا كبرى، 51).
1. تكديس الأشياء: فترى في دولنا الإسلامية عموما، والعربية خصوصا إنفاقا كثيرا على جلب منتجات الحضارة المعاصرة، والتنافس في شراء الآلات والوسائل، وبناء المباني الضخمة الكثيرة، سكنية وإدارية ورياضية وعلمية، ربما لا تجدها في البلدان المتقدمة التي تملك تجربة كبيرة في التنمية والتقدم التكنولوجي والعمراني. بل زرت في 2015 جامعة أكسفورد وبقيت هناك اياماً بمناسبة تنظيمنا لمؤتمر مشترك، وقاموا بتعريفنا بالجامعة وهياكلها ومبانيها، فوجدت إلى جانب المباني التاريخية، مباني أخرى بسيطة ومتواضعة، وتجهيزاتها قديمة ومتواضعة، لكنها في الأخير تخرّج أفضل العلماء والباحثين، وتتفوق على غيرها من الجامعات في التعليم والبحث العلمي والاختراعات وخدمة المجتمع، بينما في جامعتي التي أعمل بها توجد تجهيزات ومباني ووسائل لا تتوفر عليها جامعة اوكسفورد، غير أن نتائج جامعتي متواضعة تعليما وبحثا وإبداعاً.
بقيت قطاعات مجتمعاتنا ودولنا، تتباها باقتناء الأجهزة والوسائل والتجهيزات، ولكن دون تخطيط واضح لتفعيلها واستغلالها، ودون حاجة حقيقية تتوافق مع المرحلة الحضارية التي فيها مجتمعاتنا، إلا القليل.
2. تكديس الأشخاص: وكما يقول بن نبي فإن هذا التكديس للأشياء يزدوج على العموم مع تكديس للأشخاص. فالمكان الذي يجب أن يشغله خمسة موظفين أو مستخدمين، يوضع فيه أحيانا خمسة عشر أو عشرين بطريقة تزدوج بها مشكلة البطالة العادية مع بطالة ناشئة عن الواقع في استحداثنا لموظفين دون أن نستحدث وظائفهم. وهذا ايضاً يضاف إليه مثلا عدد الإدارات، وعدد الوزارات والاداريين والوزراء، والمسؤولين. بل وصرنا نخرج أعدادا هائلة من الخريجين في شتى القطاعات ونكدسهم لنقول عندنا كذا ألف مهندس، وكذا ألف طبيب …ألخ، ولكن عمليا نقوم بتكديس أشخاص غير مؤهلين حرفيا ولا علميا في الغالب الاعم، مما يؤدي بنا إلى تضخيم عدد الإطارات نظريا، وتقليلها وظيفيا، مما يربك خطط التنمية، ويهدر الإمكانات، ويفسد استعدادات الأجيال وتوجهاتهم، ويحرمهم من مكان وظيفي يخدمون به أمتهم.
أضف إلى ذلك تكديس الخبراء الأجانب دون تدقيق في مدى خبرتهم، ومدى قدرتهم على نقل الخبرة إلينا وفق رؤيتنا وخططنا. فيتسببون في إنجاز مشاريع مشوهة لا تليق بمرحلتنا الحضارية، ولا تنسجم مع نسيجنا الاجتماعي، ولا تحقق ما جاؤوا من أجله، والامثلة على ذلك كثيرة في بلداننا.
3. تكديس الأفكار: كما تشمل ثقافة التكديس التي صارت ظاهرة، تكديس الأفكار، مثلما رأينا في مقالنا السابق عن «الحرفية» في الثقافة، حيث يتم تكديس الشهادات والكلمات والكتب، لكن دون أن يكون لها ثمرة، ودون أن يكون للأفكار كثافة الواقع وحقيقته. وقد استمرت ظاهرة التكديس في مجال الأفكار إلى يومنا هذا، فأغلب الكتب المعروضة في المكتبات العربية، تتضمن تكديسا لنصوص من إبداع الغير، سواء أكانوا من التراث الإسلامي، أو كانوا من الغربيين (لعاطف، 43)، مع أن مضمونها لا يعدو أن يكون نقلا لأفكار ومناهج وفلسفات وقضايا في سياقات حضارية أخرى، أو في سياقات تاريخية مضت، دون تبيئتها وتوطينها معرفيا وفكريا ومنهجيا، ودون تحيينها زمنيا لتكون مواكبة لمقتضيات المرحلة التي نحن فيها.
ولعل بسبب ما صار يمثله النموذج الحضاري الغربي، والمكان المركزي الذي صار يشغله في وجدان معظم المفكرين والشعوب، صرنا نلاحظ كيف أن التعامل مع الحضارة الغربية الغالبة أخذ – منذ أخريات القرن الثامن عشر – صيغة الانبهار الذي دفع كثيرين من قيادات الأمة الإسلامية ونخبها وعلمائها، وأبنائها عموما، إلى الأخذ غير المتبصر عن هذه الحضارة، أوالتكديس (بن نبي، مشكلة الأفكار، ص70)، الذي يستورد ويراكم الخبرات والأشياء، ولكنه لا يصنع حضارة، أو يعيد نهوضها من جديد. ومكمن الخطورة في هذا الأخذ أنه بهذا التكديس يقتحم عقل الأمة وعقيدتها وثوابتها التصورية وخصائصها الأساسية بجملة من المفردات التي تلحق الدمار بمقومات الشخصية الإسلامية، وتقودها إلى الخروج من ساحة الاحتكاك الحضاري، وقد فقدت ذاتها وأصبحت – في نهاية الأمر – تابعا يدور في فلك الآخر.
فالتكديس عائق كبير، سواء أكان تديس الأشياء أم الأشخاص أم الأفكار، لأنه ليس بناء، بقدر ما هو مراكمة لمنتجات بلا رؤية ولا خطة ولا روح.
*مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية/ جامعة قطر

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com