المراوحة في التاريخ

يكتبه د. محمّد قماري/
تسري على ألسنة الناس عبارة لا يتوقفون عندها، وأصبحت لكثرة تداولها كأنها حقيقة لا يرقى إليها الشك، تلك العبارة المغلوطة تقول: (أمريكا اكتشفها كرستوف كولمبس)، وإمعانًا في ترسيخها أطلقوا على الولايات المتحدة الأمريكية (العالم الجديد)، والمصطلح مختار بعناية فروح العصر هي تلك الروح التي تحتفي بـ(الجديد)، فإذا أضفنا إليها تلك القفزة التي حملت أمريكا لتصبح امبراطورية العالم المعاصر، فقد يغدو من الخبل التوقف أمام مراجعة مصطلحات طاغية: الاكتشاف والجدة والقوة…
لكن مراجع التاريخ تحدثنا أن أمريكا قديمة، وأن سكانها الأصليين كانوا فيها قبل 15000 سنة من قدوم كولمبس، وأن الرجل الذي ارسلته الكنيسة الحانقة من نشاط الاتراك في البحر المتوسط كان يأمل في اكتشاف طريق جديد يوصل سفن غرب أوربا إلى الهند، وحين رست سفينته على اليابسة في النصف الثاني من القرن الخامس عشر، ظن أنه وصل الهند لكنه وجد أمة من الناس تميل سحنتهم إلى الحمرة، فأطلق عليهم (الهنود الحمر)…
وقصة الفظائع البشعة التي تعرض لها (الهنود الحمر) معروفة على أرض أمريكا، يضاف إليها ما تعرض له السود الذين اختطفوا عنوة من سواحل غرب إفريقيا، ومع ذلك فإن تراكم القوة المادية والأدبية جعلت دولة أمريكا هي رائدة العالم في هذا العصر، ومنذ وقت طويل والأماني تراود كثير من ساكنة العالم بالعيش في أمريكا، فهي بلاد الجلال والجمال، وهذا حال الدنيا إذا أقبلت على قوم اكسبتهم محاسن غيرهم، وإن أدبرت على قوم سلبتهم محاسن أنفسهم…
إن الفقير الذي بدد ثروة والده لا يعبأ الناس بتاريخ ثروته، كما أن الشعوب التي يأكل خلفها رصيد سلفها المادي والأدبي لا يحتفل الآخرون بتاريخها، وربما طعنوا في حقيقة ذلك التاريخ كله، والولد العاق لا يلحق بآبائه إلا السب والشتم!
وقد قرأت في الأيام الأخيرة تعليقا لأحد الأصدقاء، يتمنى فيه أن لو كان له أمر وضع البرامج الدراسيّة إذن لألغى مادة التاريخ ووضع مكانها مادة تدّرس المستقبل، وأنا لا الوم الصديق لأن تدريس التاريخ في مناهجنا الدراسيّة ردئ، فهو أقرب إلى قصص الحكواتي منه إلى منهاج يربط الماضي بالحاضر ويستشرف مستقبل (الأمة)، وهو الهدف من تدريس التاريخ.
إنَّ التاريخ المنبت عن الحاضر، ولا يستشرف المستقبل في حركية المجتمع، يغدو عبئًا وحشوا لا طائل من ورائه، والتاريخ الذي لا يتغلغل في وجدان الناشئة ويجعلهم يعتزون بماض يحرّك فيهم كوامن الانخراط في صنع الحاضر والمستقبل، لا يعدو كونه مادة ثقيلة يتمنى المتلقي الخلاص منها في أقرب الآجال…
ولقد عملت المدرسة (الكولونياليّة) بتاريخ الجزائر، بكل ما أوتيت من جهد، في سبيل زرع فكرة (الوطن الجديد)، وحاولت زرع فكرة الأرض (الخالية)، ومنه فالاستيطان الاستعماري جاء لملء فراغ وإنشاء مجتمع، وانطلق رواد تلك المدرسة في اتجاهين، الاتجاه الأول هو تدمير الموجود وعلى ضوء هذا الاتجاه نقرأ تهجير الشيخ محمد بن العنابي أشهرا قليلة بعد الاحتلال، والحاق الشيخ بن الكبابطي به سنوات بعد ذلك.
إن اقدام السلطات الاستعمارية على نفي مفتي الحنفية الشيخ محمد بن العنابي أو مفتي المالكية الشيخ مصطفى بن الكبابطي، مع آخرين أخرجوا من الديار الجزائرية، يصب في اتجاه كسر الحواضن الثقافيّة، وحفر خندق يقطع حبل التواصل بين الأجيال، وتغدو الرابطة المحليّة هي عنوان كل تجمع بين السكان، وتعويضا عن الرابطة الثقافية للمجتمع، ومن هنا نفهم تلك العبارة المسمومة التي أطلقها الأمين العام للحزب الشيوعي الجزائري مع نهاية عقد الثلاثينيات من القرن الماضي.
فلقد قال موريس توريز: إن الجزائر أمة في طريق الانبعاث، وواقع الجزائر أنها مجموعات من السكان العرب والقبائل والشاوية…والحقيقة أن توريز لا يعدو أن يكون صدى لتلك المدرسة الاستعمارية والتي لا تزال تلوك تلك المصطلحات ذاتها، ولو أمعنوا النظر لعرفوا أن مصطلح (الأمة) في ثقافتنا يتعدى ذلك المفهوم الهجين في الغرب (nation)، فالأمة رابطة ثقافية وعقدية، أما الوطنية فهي مفهوم مادي إجرائي، ولد في السياق الغربي للحد من سفك الدماء بين قبائل متناحرة.
أما الاتجاه الثاني، فقد عمل على إظهار قوة الغازي المحتل، فبعد تجهيل (الأهالي) وحرمانهم من خيرات بلادهم، ظهر الغزاة في أبهى حللهم المادية والأدبيّة، مع تركيز ملِّح في غرس فكرة (التخلف بالوراثة)، وأن هؤلاء الأهالي لم يكونوا شيئًا قبلنا ولن يكونوا شيئًا بعدنا!
وهذا ما يجب ان ندركه جميعًا ونحن نقرأ التاريخ، من كون الحاضر والمستقبل لا يبنى أبدًا في ظل المدرسة الكولونياليّة، وأن قطع الحبل السري الموصل إليها واجبٌ يمليه التاريخ ويبرره الواقع، لأنها مدرسة تجدد ذاكرتها مع مر الزمان.