في ظلال السنة النبوية الشريفة: لا تَحقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوف شَيْئًا(1)

أ.د/ مسعود فلوسي/
روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَحقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوف شَيْئًا، وَلَو أنْ تَلقَى أخَاكَ بوجهٍ طلقٍ». هذه وصية خص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه أبا ذر الغفاري رضي الله عنه.. هي كلمات بسيطة ولكنها تحمل معاني عميقة، إنها وصية جامعة لكل خير وشاملة لكل معروف، من أخذ بها سعد في الدنيا وفاز في الآخرة.
معنى المعروف:
المعروف؛ كل ما هو خير، كل عمل يعمله الإنسان وفيه طاعة لله عز وجل، وفيه إحسان إلى المخلوقات فهو معروف، ففعل المعروف معناه أن الإنسان يعمل كل ما هو طاعة لله وفيه إحسان إلى الناس، بل إلى المخلوقات ككل وليس فقط البشر، هذا هو المعروف.
الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لأبي ذر ولكل مسلم من ورائه: لا تحقر أي معروف، كل ما هو معروف اعمله، كبيرا أو صغيرا، عاما كان أو خاصا، ولا تحقرن شيئا، لا تقل هذا العمل ربما ليس فيه حسنات أو أن حسناته قليلة، أو ما إلى ذلك، فإنك لا تدري ما هو العمل الذي يدخلك الجنة. إذ يمكن لشخص أن يتصدق بمليار ولا يدخل الجنة، ويمكن لشخص أن يتصدق بدينار ويدخل الجنة، لأن كل الأمور ترجع إلى النية والإخلاص والصدق مع الله عز وجل وحب الخير للمسلمين خاصة وللناس عامة.
فلا ينبغي للإنسان أن يحتقر أي عمل فيه خير.
«وَلَو أنْ تَلقَى أخَاكَ بوجهٍ طلقٍ»؛ أي حتى لو كنت لا تملك شيئا، ولا تستطيع أن تفعل أي شيء من الخير، يكفي أن تبتسم في وجه كل من تلقاه، فهذا العمل من أعمال الخير التي تنفع الإنسان في الدنيا والآخرة، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلُّ معروف صدقة، وإنَّ من المعروف أن تلقى أخاك بوجهٍ طَلْق» [رواه الترمذي وأحمد].
الخير محور حياة المؤمن:
ماذا نستفيد من هذه الوصية؟
نستفيد منها أن المسلم يجب أن تكون حياته كلها خيرا، أي أنك كمسلم وكمؤمن لابد أن يكون محور حياتك كلها هو الخير، تفكر فقط في الخير، تعمل فقط الخير، لا تفكر في الشر أبدا، لأن المؤمن لا يفكر في الشر، لا لنفسه ولا للآخرين.. المؤمن يفكر فقط في الخير، ويحرص على عمل الخير، ويبحث عن المَوَاطن التي يفعل فيها الخير، لأن المؤمن في هذه الحياة يعرف أنه في رحلة، هذه الرحلة لها بداية هي يوم ولد، ولها نهاية هي يوم الوفاة، وبعد نهاية الرحلة سيقدم تقريرا حول رحلته هذه ماذا فعل فيها.
المؤمن في هذه الحياة مكلف بمهمة:
نحن نعرف أنه عندما يكون هناك موظف في مؤسسة معينة، قد يكلف بمهمة، فيرسل إلى مكان آخر للقيام بعمل معين، وعندما يعود إلى مؤسسته لابد أن يقدم تقريرا إلى المسؤول يعرض فيه نتائج مهمته. فإذا وصل هذا الموظف إلى مسؤوله وقال له: منذ أرسلتني إلى ذلك المكان وأنا أتجول وأتسكع، فقد نسيت المهمة التي كلفتني بها، ماذا ستكون النتيجة في هذا الموقف وأمثاله؟ طبعا المسؤول سيعاقب هذا الموظف بالعقوبة المناسبة.
إذا كان الإنسان في هذه الدنيا حياته كلها بهذه الصورة، فهو لا يصلح لأي مهمة، وبالتالي لن ينجح في حياته.
نفس الأمر فيما يتعلق برحلة الحياة، نحن في هذه الدنيا مكلفون بمهمة، هذه المهمة واضحة هي عبادة الله عز وجل، وعبادة الله عز وجل اسم جامع لكل خير، لأن العبادة ليست فقط الشعائر المعروفة، وإنما كل عمل يقوم به الإنسان لابد أن ينوي فيه أنه لله، طاعة لله: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163-162].
فما دامت هذه هي المهمة التي خلقنا لأجلها، وهذه هي الغاية التي جعلنا الله سببا لتحقيقها في هذه الحياة، فينبغي أن نحرص عليها.
فالمؤمن مهمته الأساسية هي فعل الخير مهما كانت صورة هذا الخير، لماذا؟ لأن الثمن الوحيد للجنة هو فعل الخير، ليس هناك وسيلة يمكن أن تدخل بها الجنة سوى أن تفعل الخير، سواء في علاقتك بالله أو في حياتك الشخصية أو في علاقتك مع الناس، أي أن أعمال البر والخير لابد أن تقوم بها لتحصل على مفتاح الجنة، وبدون ذلك ليس لك شيء، أي لا مطمع لك في الجنة، وأعمال الخير مطلوبة منك بقدر إمكاناتك، وبقدر استطاعتك.
فعل الخير مطلوب يوميا ولو بمجرد النية
والرسول صلى الله عليه وسلم يبين لنا أن عمل الخير ينبغي أن يكون نشاطا يوميا، كل يوم لابد لك من كم من الحسنات، فإذا مر عليك يوم لم تفعل فيه خيرا ولم تحصل فيه على حسنات، فقد ذهب عليك هذا اليوم هدرا، وستحاسب عليه لأنه محسوب عليك، فهذا اليوم يندرج ضمن الوعاء الزمني لمهمتك، حيث ضيعت وقتا من زمن المهمة، ولابد أن تحاسب عليه.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيهِ صَدَقَةٌ» (السلامى هي قطعة العظم). فالمفترض فيك، أنك كل يوم تفعل من الحسنات بعدد قطع العظام التي في جسمك، هناك حوالي 210 قطعة عظم في الجسم، فالأصبع مثلا فيه ثلاث قطع، وهكذا كل عضو فيه قطعة أو أكثر من العظام.
«كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ»، أي كل يوم، لابد لك كمؤمن أن تحرص على تزكية عظام جسمك بحسنة واحدة على الأقل عن كل عظم.
وأعمال الخير لا تعد ولا تحصى، والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا نماذج لأعمال الخير التي يمكن لكل إنسان أن يفعلها كل يوم.
«تَعْدِلُ بَيْنَ الاثْنَينِ صَدَقَةٌ»، أي وأنت سائر في طريقك، ووجدت اثنين يختصمان، تتوقف عندهما وتصلح بينهما بالعدل، فهذه صدقة، والصدقة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
«وَتُعينُ الرَّجُلَ في دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ»، فحين تجد شخصا له أثقال لا يستطيع أن يحملها بنفسه، تعينه وتحمل معه، فهذه صدقة.
«الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقةٌ»، تجد أحدا في طريقك فتسلم عليه. يسألك أحد عن طبيب معين مثلا فتدله على مقر عيادته. كلام عادي بالنسبة لنا لا نحسب له حسابا، ولكنه عند الله عز وجل في ميزان الحسنات. تركب في حافلة، وأنت جالس في مقعد، يصعد شخص كبير ولا يجد مقعدا، فتقوم له وتجلسه في مكانك، هذه صدقة. تسير في الطريق بسيارتك فيضايقك شخص آخر بسيارته، فتبتعد له من الطريق وتتركه يمر، حتى وإن كانت الأولوية لك، فربما يكون مستعجلا لسبب معين، فهذا التنازل منك لك فيه صدقة.
عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تبسُّمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرَّجل في أرض الضَّلال لك صدقة، وبصرك للرَّجل الرَّديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشَّوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة» [رواه الترمذي].
فهكذا أعمال الخير لا تعد ولا تحصى.
حتى إذا لم تجد ما تعمله، فعلى الأقل كلما خرجت من بيتك صباحا، انو في نفسك بينك وبين ربك أنك كلما رأيت عملا من أعمال الخير ستفعله، حتى لو لم تفعل شيئا في ذلك اليوم، فكأنك فعلت، لأن المؤمن يبلغ بنيته مالا يبلغه بعمله.
فلو نويت في نفسك كل صباح أنك لو سمعت بشخص مريض ستزوره، ولو سمعت بشخص مات ستحضر جنازته، ولو رأيت شخصا يحتاج إلى مساعدة ستساعده، هذه النية تكفيك في احتساب هذه الأعمال في كتاب حسناتك، وإذا حدثت فعلا وفعلتها فهي محسوبة بأضعاف مضاعفة من الحسنات، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيّن: فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة» [رواه البخاري ومسلم].
يُتبع