تجريد الإسلام من جوهره (شموليته) ومن سلاحه (دولته)!
أ.د. عبد الملك بومنجل/
يذكر المسلمون بكثير من الاعتزاز والافتخار أن لهم حضارةً عظيمةً شرّفت الإنسانية، بناها الإسلام تحت عنوان الخلافة الإسلامية. ويذكر المسلمون بكثير من الألم والمرارة أن تلك الحضارة قد تقهقرت، وتلك الخلافة قد سقطت ذات يوم مشؤوم من العام الرابع والعشرين من القرن العشرين!
ويذكر المسلمون، خاصتهم وعامتهم، أن الحضارة الإسلامية ممتدة على أربعة عشر قرنا، لم تعرف لها دستورا غير القرآن الكريم، ولا مرجعا في إدارة شؤون الحياة إلا الوحي العظيم، داعيا إلى العلم والحكمة والإفادة مما تنتجه البشرية غيرَ مخالفٍ لأصوله وقيمه ومقاصده.
ولكنّ حدثا ما حدثَ عاما بعد سقوط الخلافة، ارتدى عباءة العلم، واتُّخذَ فيما بعد عيدا من أعياد «التنوير»، أنسى كثيرا من المسلمين هذه البديهيات الدينية والتاريخية، وأدخلهم في جدال كانوا في غنى عنه: تأليف الشيخ الأزهري علي عبد الرازق كتـاب «الإسلام وأصول الحكم»، يضع فيه المسوّغ «العلمي» لإلغاء الخلافة، ويزعم أن الإسلام لا علاقة له بالسياسة!
المسوّغ العلمي! فـ «لتنويريون» لا يتكلمون إلا بعلم! ولقد نظرنا في ذلك المسوّغ فوجدنا أن العلمية هي آخر ما يتصف به هذا الكتاب!.
تحت عنوان: رسالة لا حكم، ودين لا دولة، يزعم عبد الرازق أن «ظواهر القرآن المجيد تؤيد القول بأن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يكن له شأن في الملك السياسي، وآياته متضافرة على أن عمله السماوي لم يتجاوز حدود الإبلاغ المجرد من كل معاني السلطان». وأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن من عمله شيء غير إبلاغ رسالة الله تعالى إلى الناس. وأن ولايته لم تتعدَّ «ولاية الرسالة غير مشوبة بشيء من الحكم». ويختم دعواه بهذا القرار الحازم الجازم: «هيهات هيهات، لم يكن ثمة حكومة ولا دولة، ولا شيء من نزعات السياسة، ولا أغراض الملوك والأمراء». كل ذلك، وهو يستند إلى جملة آيات قرآنية تنص على أن رسالة النبي عليه الصلاة والسلام هي الإبلاغ لا الإجبار؛ وذلك هو موضع الخلل في استنتاجه؛ فقد وقع في مخالفات منهجية كثيرة، نذكر منها:
المخالفة العلمية الأولى أن المؤلف تمثل بآيات لا صلة لها بموضوع الكتاب، فإذا كان هدف عبد الرازق هو إثبات أن علاقة الرسول عليه الصلاة والسلام بالمسلمين لم تتعد حدود الإبلاغ إلى الخلافة أو السياسة أو الحكم أو ببساطة تنفيذ أحكام الله وشريعته بينهم، فإن هذه الآيات إنما تتضمن علاقة النبي عليه السلام بالناس جميعا قبل أن يسلموا، فلماذا تجاهل هذه الحقيقة الواضحة؟.
والمخالفة العلمية الثانية أن المؤلف زعم أن الرسول عليه السلام لم يكلَّف شيئا غير البلاغ، ولم يؤمر بأن يأخذ الناس بما جاءهم به، ولا يصح هذا الزعم إلا إذا تعلق الأمر بالناس الذين لم يسلموا، أما المسلمون فالآيات صريحة في أنه لا معنى لإسلامهم وإيمانهم بغير الاحتكام إلى ما أنزل الله، والرجوع إلى الله ورسوله فيما يشجر بينهم من نزاع، وصريحة في أن الرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يتولى مهمة الحكم بين المسلمين، وإلا فيما معنى قوله تعالى:
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} (النساء: 105)، وقوله: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (المائدة: 49)، وقوله: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء: 65).
فهذه آيات صريحة في أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- مأمور مكلف بأن يتولى مهمة الحكم بين المسلمين، وأن يحملهم على ما جاء به من الشرع، وأن المسلمين جميعا ملزمون بالاحتكام إليه، وتنفيذ أحكام الله من بعده. فكيف يتجاهل عبد الرازق كل هذه الآيات لإضفاء الشرعية على واقع سياسي جديد منكَر انحدرت إليه الأمة الإسلامية مُكرَهة غير مختارة؟ وكيف يكون هذا التجاهل من العلم ويكون صاحبه من رموز التنوير؟ وللحديث بقية..