وراء الأحداث

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يكشف جهله بالتاريخ

أ. عبد الحميد عبدوس/

التصريحات المسيئة للجزائر ولتاريخها التي نسبتها صحيفة (لوموند) في نهاية الشهر الماضي للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لم تكن أول إساءة يوجهها سياسيون ومثقفون وإعلاميون فرنسيون للجزائر، ولن تكون على الأرجح آخر إساءة في سياق العلاقات المتشابكة والمتوترة التي تربط الجزائر بفرنسا، غير أن عاصفة الغضب والاستهجان الرسمي والشعبي الجزائري التي أثارتها تصريحات ماكرون تعود إلى إنكاره من موقعه الرسمي كرئيس للدولة الفرنسية وجود أمة جزائرية قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر مما جعل هذا البهتان المقصود يصبح التصريح الأكثر تفاهة وجهلا ووقاحة في مسلسل إساءات السياسيين الفرنسيين للجزائر، غير أنه قد يكون من الجيد أن يوجه الرئيس الفرنسي في هذه المرة الصفعات إلى نفسه ويكشف جهله بعد أن كان يتلقى الصفعات من أكف معارضيه في فرنسا.
فرية ماكرون رد عليها بنيامين ستورا المؤرخ الفرنسي المكلف بمعالجة ملف الذاكرة مع الجزائر، الذي لمح إلى أن ماكرون «عليه إعادة قراءة التاريخ»، بقوله: «حين يتحدث البعض عن عدم وجود دولة وأمة جزائريتين قبل الاستعمار الفرنسي، أتساءل إذن من ضرب القنصل الفرنسي عام 1827 وماذا كان يفعل هناك حتى ضرب؟».
السلطات الجزائرية اعتبرت أن تصريحات ماكرون «تحمل في طياتها اعتداء، غير مقبول، لذاكرة 5.630.000 شهيد، الذين ضحوا بالنفس والنفيس، في مقاومتهم البطولية، ضد الغزو الاستعماري الفرنسي، وكذا في حرب التحرير الوطني المباركة. إن جرائم فرنسا الاستعمارية في الجزائر لا تعد ولا تحصى، وتستجيب لتعريفات الإبادة الجماعية، ضد الإنسانية. فهذه الجرائم، التي لا تسقط بالتقادم، يجب أن لا تكون محل تلاعب بالوقائع وتأويلات تخفف من بشاعتها».
إيمانويل ماكرون سبق له أن اعترف ببشاعة الاستعمار الفرنسي للجزائر وبحق الجزائر في المطالبة بالاعتذار، إذ صرح في شهر فيفري 2017 بالجزائر عندما كان مرشحا للانتخابات الرئاسية: «إنّ الاستعمار جزء من التاريخ الفرنسي. إنه جريمة، جريمة ضد الإنسانية، إنه وحشية حقيقية وهو جزء من هذا الماضي الذي يجب أن نواجهه بتقديم الاعتذار لمن ارتكبنا بحقهم هذه الممارسات». كما شبه ماكرون في جانفي 2020 الاحتلال الفرنسي للجزائر ب «المحرقة النازية» ضد اليهود في الحرب العالمية الثانية، بقوله: «أنا واضحٌ جدًا بشأن التحدّيات التي تواجهني كرئيس من منظور الذاكرة، وهي تحديات سياسية. الحرب الجزائرية هي بلا شكّ أكثرها دراماتيكية.. أنا أعرف هذا الأمر منذ حملتي الرئاسية.. وهو تحدٍّ ماثلٍ أمامنا، ويتمتّع بالأهمية نفسها التي كان ينظر بها شيراك عام 1995 لمسألة المحرقة النازية». كما توعد بأن «بلاده لا يمكنها التسامح أو التغطية على أي جريمة أو فظاعة ارتكبها أي كان خلال الحرب الجزائرية»… لكن هذه التصريحات المتعقلة والتصالحية سرعان ما نسخها ماكرون بتصريحات متغطرسة وحاقدة، إذ عاد في جانفي الماضي(2021) ليقول إنه: «لن يكون هناك توبة ولا اعتذار». وفي المقابل طلب في شهر سبتمبر الماضي «الصفح» من الحركى الجزائريين، الذين ساهموا في إطالة عمر الاحتلال الفرنسي للجزائر، وشاركوا بفعالية في جرائم تعذيب وتقتيل الجزائريين، وقبل ذلك كان ماكرون قد أصدر، مرسوما رئاسيا، منح بموجبه امتيازات استثنائية للحركى المقيمين في فرنسا، كما تم بتوصية منه إعداد تقرير حول الحركى بعنوان «فرنسا تكن الاحترام والتقدير للحركى»، حمل 56 إجراء سياسيا واجتماعيا وماديا، منها «تدريس الحرب الجزائرية» في المدارس الإعدادية والثانويات، مع التركيز على تاريخ الحركى وإبراز دورهم خلال هذه الحرب.
رغم أن فرنسا لم تترك طوال قرن وثلث القرن (132 سنة) من استعمارها للجزائر جريمة من الجرائم الوحشية إلا وقامت باقترافها: من الإبادة والتقتيل، والإحراق والتدمير، والتعذيب والتنكيل، والمسخ والتجهيل، والنهب والتفقير، إلى الاجتثاث والتهجير… وفي هذا يقول فرحات عباس رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في كتابه (ليل الاستعمار): «كانوا كلهم في الضراوة سواء من روفيغو إلى تيريزيل ثم كلوزيل ثم يوسف وسانت أرنو وشانقارني ولاموريسيير وهيربيون ودومنونتانياك ودانريمون وبيليسي وكافينياك وبراندون ودوماس ووديريسون وكانروبير وبودو وهوبول وبوسكي وكامو، وبان وهلم جرا يكفي الإنسان أن يطلع على الأحاديث التي يرويها أولئك الضباط عن غزواتهم ليحصل على صورة ضئيلة عما قاساه شعبنا من ويلات بشجاعة منقطعة النظير».
أما المؤرخ الفرنسي شارل أندريه جوليان، فيقول: «كانوا كلهم يفتخرون بضراوتهم من الملكيين إلى الجمهوريين إلى أتباع نابليون (نابليون الثالث) فمبجرد نزولهم بأرض الجزائر كانت تعتريهم حمى القتل والنهب والتخريب».
رغم كل هذه المعطيات التاريخية يدعي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن النظام الجزائري هو الذي أعاد بعد الاستقلال كتابة التاريخ الاستعماري الفرنسي للبلاد، وغرس كراهية فرنسا في الجزائريين. هذه المواقف المتناقضة والمتقلبة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هي التي تنزع كل عوامل المصداقية أو الثقة عن مزاعمه المخادعة لتسوية ملف الذاكرة مع الجزائر والتي أعلن عنها في شهر جوان 2020 عندما طلب من الرئيس عبد المجيد تبون الاتفاق على تكليف شخصيتين عن الجانب الجزائري والجانب الفرنسي بإعداد ملف الذاكرة، تم اختيار كل من عبد المجيد شيخي مستشار رئيس الجمهورية مدير الأرشيف، والمؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا للتكفل بهذا المسعى.
قد يكون من المفيد للوقوف على شخصية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الاطلاع على كتاب المؤلف «جيون برويكون» الذي صدر في سنة 2019 تحت عنوان (ضدّ مَاكرون) الذي وصف ماكرون بأنه رّجل طّارئ على السياسة، يلتهمه طموح دون محتوى ومؤهلات حقيقية لتحقيقه وأنه دعِيّ يتقدم إلى الناس في هيئة فيلسوف دون أن يكون قد كتب شيئا في حياته يستحق القراءة أو الذكر والنشر. وهذا هو ما يفسر ـ حسب المؤلف ـ وضع ماكرون غير الثابت والمتقلب.
إن التلاعب بالتاريخ وتضليل الناس حول حقائقه كما يفعل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حاليا مع تاريخ احتلال بلده للجزائر هو أمر خطير، لأنه دون إبداء الندم الصادق والاعتذار الصريح عن مظالم الحقبة الاستعمارية لا يمكن للإنسان أن يكون في مأمن من تبرير فظائع الماضي وتكرار جرائمه.
التصريحات العدائية والمهينة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أيقظت حماسة بعض الكتل البرلمانية في الجزائر لإصدار قانون تجريم الاستعمار الفرنسي الموضوع تحت طائلة التجميد منذ 12سنة حيث أن مشروع قانون تجريم الاستعمار الفرنسي تم تجميده في 2009، حيث قام كل من رئيسي المجلس الشعبي الوطني الأسبقين عمار سعداني، وعبد العزيز زياري في عهد الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة وبضغط من السلطات الفرنسية بتجميد مشروع قانون تجريم الاستعمار وسحب من جدول أعمال المجلس بعد حصول المشروع على الأغلبية اللازمة لإقراره وإصداره في شكل قانون ملزم للدولة الجزائرية.
اليوم ،وبعد كل استفزازات الرسميين الفرنسيين للدولة والشعب الجزائريين أصبح من المؤسف والشائن للجزائر أن تطوي ملف تجريم الاستعمار، أو أن تؤجل إصداره إلى أن يأتي جيل جديد أو أن يكون جيل المجاهدين قد غادرا لحياة دون أن يرى بلده تصدر قانونا يحمي ذاكرة الشهداء ويمجد تضحيات الشعب الجزائري، ويرد على إقدام البرلمان الفرنسي على إصدار قانون يمجد الاستعمار وتلتزم به الدولة الفرنسية في سنة 2005. إن إصدار قانون تجريم الاستعمار هو مطلب جزائري ولكنه أيضا مسعى إنساني، يهدف إلى غلق جروح الذاكرة وتحرير التاريخ من فيروس العنصرية المدمر الذي يملك القدرة على التجدد وإعادة الانتشار إذا لم يتم التخلص منه بصفة تامة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com