في ظلال السنة النبوية الشريفة: أفضل المؤمنين عمـــــلا وأحسنهم كياســـــــة
أ.د/ مسعود فلوسي/
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كُنتُ معَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، فجاءَهُ رجلٌ منَ الأنصارِ، فَسلَّمَ على النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، ثمَّ قالَ: يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ المؤمنينَ أفضلُ؟ قالَ: «أَحسنُهُم خُلقًا»، قالَ: فأيُّ المؤمنينَ أَكْيَسُ؟ قالَ: «أَكْثرُهُم للمَوتِ ذِكْرًا، وأحسنُهُم لما بعدَهُ استِعدادًا، أولئِكَ الأَكْياسُ» [رواه ابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، حديث رقم 4293. وحسَّنه الألباني].
سوء الخلق من صفات المنافقين:
من واجب المؤمن – كما سبق – أن يكون على خلق كريم ويعامل الناس بالأخلاق الحسنة، لأن سوء الخلق وسوء التعامل مع الناس من صفات المنافقين، ولذلك فإن المؤمن إذا رأى من نفسه أنه يتعامل مع غيره بالسوء، عليه أن يراجع إيمانه، لأن إيمانه فيه خلل يجعله يتصرف تصرفات المنافقين، والعياذ بالله، لأن المعاملة السيئة من صفات المنافقين التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «آيةُ المُنافِقِ ثلاثٌ: إذا حدَّثَ كذَبَ، وإذا وعَدَ أخلَفَ، وإذا ائْتُمِنَ خان»[رواه الترمذي]، وفي رواية أخرى: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر»[رواه الشيخان]، «إذا خاصم فجر»؛ أي أنه إذا كانت بينه وبين غيره مشكلة بسيطة، فإنه يقيم لها الدنيا ولا يقعدها، يستدعي قومه ويجعل منها خصومة ذات طابع عنصري لا حل لها ولا مخرج منها، لأجل أمر بسيط لا معنى له.. فلابد للمؤمن أن يكون عاقلا سمحا سهلا ليِّنا كي يحقق مرضاة الله عز وجل ويكون من أفضل المؤمنين عند الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة.
أكْيَس المؤمنين من يذكر الموت ويستعد له:
السؤال الثاني الذي توجه به الصحابي للنبي صلى الله عليه وسلم: فأي المؤمنين أكيس؟ والكَيْسُ: العَقْلُ والفِطْنةُ، أي: من هو المؤمن الذكي الفطن الذي عقله يُبَصِّرُه بأحسن الأعمال؟
فكان جوابه عليه الصلاة والسلام: «أكثَرُهُمْ للمَوْتِ ذِكرًا وأحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ استِعدادًا، أولئِكَ الأَكْياسُ»، فالكيِّسُ هو من يكثر ذكر الموت ويحسن الاستعداد له.
ذكر الموت إما أن يكون ذكرا إيجابيا نافعا، أو يكون ذكرا سلبيا ضارا.
فأنت يمكنك أن تذكر الموت وتستعد له بطريقة إيجابية تنفعك في دنياك وفي آخرتك، ويمكنك أن تكثر من ذكر الموت ويكون ذلك بطريقة سلبية تضرك في الدنيا وفي الآخرة.
الموت حق لا ريب فيه، ومهما كره الإنسان الموت فهو آتيه لا محالة، ولا أحد يملك أن ينجو من الموت، كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْس ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ}[آل عمران: 185]، {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}[النساء: 78]، وقد خاطب سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}[الزمر: 30].
فالموت حق، ولا يدري الإنسان متى يأتيه، ولذلك فالعاقل هو من يذكره ويستعد له، لأن الموت يأتي بغتة، فكم من إنسان صحيح سليم ممتلئ الجسم بالقوة والنشاط إذا به يفقد روحه ويصبح جثة هامدة، وكم من إنسان مريض يظل يعاني الآلام حتى يتمنى له أهله الموت ومع ذلك لا يموت، وقد يمتد به ذلك سنين طويلة ولا يموت، لأن الموت ليس ملازما للمرض، فالمرض لا يقتل وليس هو الذي يأتي بالموت، الموت يأتي عندما يحين الأجل، لكن هذا الأجل لا أحد يعلم متى، قد يموت الإنسان كبيرا، وقد يموت صغيرا، وقد يموت شابا، وقد يموت شيخا، لا أحد يعلم.
المشكلة فيما بعد الموت، كيف سيكون حالك بعد الموت؟ هل تكون من المنعمين أم تكون من المعذبين؟ نسأل الله العافية، وكل مؤمن – طبعا – يرجو أن يكون من المنعمين، ولكي يكون من المنعمين لا تكفي الأماني والأمنيات، بل لابد من العمل.
الأثر الإيجابي لذكر الموت هو المطلوب:
المؤمن العاقل الذكي الفطن الكيِّس هو من يجعل الموت دائما بين عينيه ويستعد لاستقباله ويتوقعه في كل لحظة. هذا الاستعداد قد يكون إيجابيا فيدفع الإنسان إلى العمل، وقد يكون سلبيا فيدفعه إلى الخمول والكسل.
والمطلوب من المؤمن هو الاستعداد الإيجابي؛ بمعنى أن يكون حريصا على عمله، حريصا على مصالحه وشؤونه، ولكن في إطار الاستعداد للموت، فأنت تذهب لعملك الدنيوي وتؤديه بصفة عادية، لكن لابد أن تضع في اعتبارك أنك ستموت وستلقى الله عز وجل وسيحاسبك على هذا العمل؛ هل كنت صادقا فيه متقنا له، أم غششت فيه وخنت وأخذت المرتب وأنت لا تستحقه؟
التاجر وهو يمارس تجارته، ينبغي أن يضع الموت بين عينيه، وهو أنه سيلقى الله عز وجل وسيحاسبه هل صدق مع الناس في تجارته أم غشهم؟ هل أخذ ما يستحق من ربح أم أنه أربى وأخذ ما لا يستحق؟
وهكذا، في كل عمل تكون فيه؛ ضع الموت بين عينيك واستعد للقاء الله عز وجل فيه، في كل شأن من الشؤون؛ في معاملتك لأسرتك، لوالديك، لجيرانك، في كل شؤونك استعدَّ للموت.
ليس الاستعداد للموت الانزواء في زاوية والقعود في انتظار حلول الموت، ليس هذا هو المطلوب، المطلوب أن تستعد للموت في كل شؤونك، أن تستمتع بالحياة التي أنعم الله بها عليك وجعلها لك فرصة لكي تعبده فيها وتحقق مرضاته، فعليك أن تتنعم في هذه الحياة باعتبارها نعمة من الله، باعتبارها فضلا أسداه الله عز وجل إليك، فعِشها بتمامها، عش شبابك، وعش كهولتك، وعش شيخوختك، عش حياتك كلها وتنعم فيها بالطيبات، لكن كل ذلك في إطار ما يرضي الله، في إطار توقع الموت دائما والاستعداد له وانتظار السؤال الذي سيوجه إليك: ماذا فعلت في مالك؟ ماذا فعلت في عملك؟ ماذا فعلت مع أسرتك؟ كيف عاملت أهلك؟ كيف عاملت والديك؟ كيف عاملت إخوتك؟ كيف عاملت جيرانك؟ ستُسأل عن كل شيء.
ولذلك عليك أن تمارس كل شؤونك وتُجري حياتك في إطار ما يرضي الله عز وجل، وهذا معنى الاستعداد للموت، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه كل مؤمن.
نسيان الموت خطر عظيم:
لكن الإنسان عندما ينسى الموت تصبح هذه الأمور كلها مهتزة، عندما تنسى الموت تجارتك لن تكون صادقة، وعندما تنسى الموت ستسوء معاملتك مع والديك، ومع جيرانك، ومع كل من تتصل به، لأنه عندما تنسى الموت يحضر الهوى، تحضر النفس الأمارة بالسوء، التي تدفعك للوقوع في الخطأ، وتدفعك للوقوع في المعاصي. أما عندما تتذكر الموت، فإنك تحترس وتحذر وتحسب حسابا لتصرفاتك وأفعالك وأقوالك، وتفعل فقط ما يرضي الله عز وجل، وإذا أخطأت تسارع إلى التوبة، لأنك خائف أن تسأل عن هذا العمل، وعندما تتوب وتستغفر الله سبحانه وتعالى منه لن تُسأل عنه يوم القيامة لأنه يُمحى من كتابك.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أكثروا ذكر هادم اللَّذات: الموت» [رواه الترمذي، والنَّسائي، وصحَّحه ابن حبَّان].
فالموت وإن كان ثقيلا على النفس إلا أن النفس لابد أن تتقبله وأن تتعايش معه وتستعد له، وهذا هو الموقف الإيماني الصحيح، وهو موقف له أثره الطيب في حياة المؤمن الدنيوية وفي مصيره في الآخرة.
نسأل الله عز وجل أن يحسن أخلاقنا ويطيب أعمالنا، ويعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا، ويزيدنا علما.