المثالية الزائدة وكيف جنت علينا(2)؟!
مداني حديبي/
تناولنا في الحلقة الماضية خطأ الاستغراق في المثالية الزائدة عند الصحابة وأهل الهمم العالية وأن الصحابة بشر من لحم ودم: يخطئون ويُصححون، ويتعثرون وينهضون، ويذنبون ويتوبون..مع فضلهم العظيم وذكرهم الزكي الجميل..
وفي هذه الحلقة نتحدث عن بعض صور المثالية الحالمة الصادمة في حياتنا المعاصرة:
يطالع الشاب كتابا عن الزواج المثالي فيرسم صورة وردية لزوجته القادمة من الجنة ..
لا صخب ولا تعب ولا نكد…بل سكينة ومحبة وسعادة إلى الأبد.
وتحضر الشابة دورة في السعادة الزوجية ويرسم لها المحاضر لوحة جذابة ساحرة لذاك الفارس الذي سيأتيها يمتطي فرسا أبيض وينقلها إلى جزيرة خضراء تحيط بها المياه العذبة من كل جانب لا تسمع فيها إلا النغم الهادئ الجميل ولا تشم إلا عبير حدائق ذات بهجة..
ويتصفح بعضنا الصفحات الفيسبوكية التي تفيض مثالية وصورا باسمة للزوجين وهما في غاية البهجة والسعادة.
ونطالع بعض المنشورات التي تبالغ في حالة الذوبان في سعادة ومرح وابتسام.
ونحلم بالصديق الصدوق الوفي الذي لا يذنب ولا يخطئ في حقنا ونرسم له صورة مثالية من خلال الكتب.
فيرتفع سقف توقعاتنا لتلك المثالية الجميلة الحالمة ثم نصطدم بعد سنوات ونستيقظ بأننا كنا نحلم فقط..
فلا وجود لهذه المثالية الكاملة إلا في الجنة القادمة..
فمن تزوجتها ليست فاطمة وأنت لست عليا…
فيها الحسنات والسلبيات وفيها الصفاء والكدر..
فيها الإقبال.. كما فيها الإدبار..
فيها العاطفة القوية الجياشة وفيها الصلادة القاسية العنيدة.
فإذا لم تتعامل مع هذه الحالة النفسية المتقلبة بحكمة وتبصر وتغاب وتغافل ومحبة واحتواء..انقلبت حياتكما إلى جحيم لا يطاق..
وهذا الذي تزوجته ليس بتلك الصورة المثالية التي كنت تحلمين بها فتكتشفين أنك كنت تبالغين كثيرا في أحلامك.
فهو يزمجر ويصرخ ..فإذا لم يأتك كالطفل الصغير نادما مبررا لعثراته وزلاته…ويقول لك الكأس انكسر وحده والكلمة خرجت من لساني غلبة و قهرا.
وإذا لم تتحلي بخلق الصبر الجميل والاحتمال الكريم والتغابي الذكي.. تنتهي الحياة الزوجية في لحظات.
وذاك الصديق الوفي الذواق النبيل الذي كنت تحلم بصورته الملائكية بحث عنه ابن الجوزي..
فلم يجده و نادى بأعلى صوته في صيد خاطره:
أين الخِلُ الوفي..؟!..
من أراد صديقا بلا عيب فليبحث عن عنقاء المغرب والكبريت الأحمر..
أي صاح: لا وجود للحياة المثالية الوردية إلا في خيال الأدباء والشعراء والبلغاء…
حياتنا دمعة وابتسامة وشروق وغروب ولقاء وفراق واقبال وادبار وتعب وراحة وكدر وصفاء..
حلفت لنا أن لا تخون عهودنا…فكأنها حلفت أن لا تفي.
صحيح أن المؤمن يصنع من الليمونة الحامضة شرابا حلوا…
ويحول المرارة إلى عسل مصفى…والضيق إلى سعة..
واللحن النشاز إلى لحن جميل أخاذ…ويعيش جنته المعجلة في محراب الذكر والصلاة والتلاوة والمناجاة والدعاء.
لكنه متيقن تماما أن المثالية الحق هناك ..أما هنا فكفاح واجتهاد وصبر مصابرة ومرابطة ودموع وبسمات وانكسارات وانتصارات.
..إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين…
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.