إضعاف الدولة

يكتبه د. محمّد قماري/
شهر سبتمبر من أبغض أشهر السنة عندي، ويطلق عليه الغربيون (موسم الدخول الاجتماعي)، وفيه يرجع الناس من عطلهم، وتعيد المدارس فتح أبوابها، ويتدافع الخلق على شبابيك الحالة المدنيّة في البلديات لاستخراج وثائق (البيروقراطية) المقيتة، كل ذلك مستساغ، وأعتدنا عليه، لكن ذلك الهاتف اللعين الذي لا يكف عن الرنين، هو سبب كآبتي حقًا، فأصحاب الحاجات يتعلقون بأضعف الأسباب، لعل وعسى يجدون طريقًا لقضاء حوائجهم…
وأنا لست وزيرا ولا مديرًا، وكل ما أملكه هو تحويل قضية طالب الحاجة إلى شخص آخر، وهكذا نتدافع في طابور مقيت، لكن بعض المشكلات (مصطنعة)، وهنا يفور الدم في عروقي، وأكره نفسي التي بين جوانحي….
ومع نهاية الأسبوع اتصل بي شقيقي، يقص عليَّ في البداية ما حدث معه، فأثناء العطلة الصيفيّة تحوّل عن مسكنه القديم في بلدية باب الزوار إلى حي آخر، وترتب على هذا التحويل ضرورة تحويل ابنه ذي الإحد عشر ربيعا إلى متوسطة تبعد عن مسكنه الجديد 30 مترًا عدًا، لكن مديرة المتوسطة الجديدة رفضت الطلب بحجة أن هذا الحي الذي يبعد 30 مترا عن المتوسطة لا يدخل ضمن مقاطعة مؤسستها!
وزرت المديرة، وأصّرت على رأيها، وقلت لها أيعقل أن يتنقل طفل عمره 11 سنة لمسافة تستغرق 45 دقيقة مشيًا ونافذة مطبخ بيتهم تطل على ساحة المتوسطة؟ قالت هذه تعليمات! وما عليك إلا أن تأتيني برخصة من المديرية، وقصدنا المديرية فإذا أمام بابها أمةٌ من الناس تتدافع في زمن (الكرونا)، قال شقيقي: والله إنّ تصرفات هؤلاء المسؤولين علموا أم لم يعلموا هي إضعاف للدولة، وتعجبت من هذه العبارة التي جاءت من رجل غير (مسيس).
أي نعم، إن المواطن يعرف الدولة في تفاصيل يومه، يعرفها في حنفية الماء، وطابور البلدية، ومدرسة أبنائه، ومصلحة النظافة، ومصعد العمارة…فإذا وقع خلل في هذه التفاصيل أشار إلى الأعلى، وكأنه يخاطب الحاكم بتلك العبارة التي وجهتها سيدة لأحد الخلفاء: أتتولى أمرنا وتغفل عنا؟
وأغلب سكان الدول المتقدمة لا يعرفون وزيرا ولا رئيسا إلا في مواعيد الانتخابات، لأن تفاصيل حياتهم اليوميّة تمضي بسلاسة، وكل الناس تؤدي واجبها فلا يوجد طالب للحقوق، والموظف يشعر بالسعادة إذا وفق في تقديم خدمة لمن يطلبها، وربما سألك هل أنت راضٍ عن خدمتي لك؟
وقبل سنوات، كنت في مصلحة الحالة المدنيّة ببلدية جسر قسنطينة، ووجدت غليانا وهرجا ومرجا، وسألت عن السبب فقيل لي إن العون الذي يصادق عن الوثائق غائب، وسألت عن رئيس البلدية فدلوني إلى مكتبه، ولم يكن موجودا، ووصل بعد مدة فتوجهت له قبل ان ينزل من سيارته، وسألني باستعلاء: ما بك تلهث؟
وشرحت له ما يدور في مصلحة الحالة المدنية، وأن الأمور توشك أن تنفلت، وأجابني ببرودة مقيتة: وما دخلي أنا؟ قلت له: أنت رئيس البلدية والعون الغائب يوقع بتفويض منك، وما دام حضر الماء غاب التيمم، وأفهمته إما أن يجد حلاً أو نخرج هذا المشهد للرأي العام…ومعرفتي بالرجل قديمة، فهو كان موظفا بسيطا في إحدى المؤسسات، لكن فهمه للمسؤولية لا يتعدى فكرة (الاستعلاء) على (الغاشي)!
إنَّ الانتخابات المحليّة القادمة، يمكن أن تحّسن من تفاصيل يوميات الجزائريين، وتجعلهم يستحضرون (هيبة الدولة) لا بمفهوم صاحبنا (المير) الذي ذكرناه، ولا بذهنية مديرة المتوسطة، فهؤلاء وأمثالهم حين يجلسون على كراسي المسؤولية، ينتقصون من كرامة الناس لتعلو كرامتهم أو هكذا يتصورون، ولا يعرفون أن كرامتهم محفوظة متى سهروا على راحة غيرهم.
إن (غربال السلطة) يجب أن لا يبحث عن (جماعة الولاء)، بل يجب دعم أصحاب الكفاءة والأخلاق، فترك الرضوض والانكسارات خطر على مستقبل البلاد، وإضعاف الدولة بتعميق يأس المواطنين وباء تداعياته مشؤومة، واحداث المصالحة مع السياسة ممكن إذا نجحنا في تأمين هذا المستوى المباشر في الخدمة العموميّة…
إنَّ البلاد في مستقبلها القريب في حاجة لتأمين جبهتها الداخلية، ورأب صدوع أحدثتها ممارسات بائسة، وخيارات غير راشدة، أعلت من مصالح (الأقلية الساحقة) وأغضبت (الأغلبية المسحوقة)، ومن السفه أن تبنى مصالح أفراد بهدم مصلحة بلد كله.
إن الوضع الاقليمي والوطني الراهن يقتضي التوجه بسرعة إلى الاستفادة من (مصداقية) كثير من أفراد الأمة آثروا في لحظة معينة العزلة والاعتزال عن الشأن العام، ومقاطعة السياسة بكل تفاصيلها، وحرمت البلاد من كفاءاتهم، وتقدم مغامرون ومقامرون، حسبوا المناصب ملهاة، تماما كما لا يفرق الأطفال بين لعبهم المجسمة لشاحنات وسيارات وشاحنات وسيارات الواقع، كلها في ذهنه لعب للتسلية.