مساهمات

في ظلال السنة النبوية الشريفة: أفضل المؤمنين عمـــــلا وأحسنهم كياســـــــة

أ.د/ مسعود فلوسي*/

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كُنتُ معَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، فجاءَهُ رجلٌ منَ الأنصارِ، فَسلَّمَ على النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، ثمَّ قالَ: يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ المؤمنينَ أفضلُ؟ قالَ: «أَحسنُهُم خُلقًا»، قالَ: فأيُّ المؤمنينَ أَكْيَسُ؟ قالَ: «أَكْثرُهُم للمَوتِ ذِكْرًا، وأحسنُهُم لما بعدَهُ استِعدادًا، أولئِكَ الأَكْياسُ»[رواه ابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، حديث رقم 4293. وحسَّنه الألباني].

حرص الصحابة على سؤال النبي صلى الله عليه وسلم:
هذا الحديث النبوي الشريف الذي يرويه سيدنا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فيه فوائد جمة مما ينفع المؤمن في شؤون الدنيا والآخرة.
وأول ما نلاحظ في هذا الحديث وفي أحاديث أخرى كثيرة أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا دائمي السؤال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نلاحظ أن أسئلة الصحابة كلها فيما ينفع المؤمن في الدنيا والآخرة، فإيمانهم العميق وصدقهم مع الله عز وجل كان يدفعهم إلى السؤال عما يرضي الله عز وجل عليهم لكي يعملوه، وعما يغضبه سبحانه وتعالى لكي يجتنبوه ويبتعدوا عنه.
فهذا الرجل لم يسأل عن الإيمان فقط، لأن الإيمان واضح ومعلوم، وإنما كان يريد درجة أحسن وأعلى من مجرد الإيمان، كان يريد أن يعرف كيف يرتقي المؤمن إلى الدرجة العليا من الإيمان، أي أن يكون أفضل المؤمنين أو من أفضلهم.
الإيمان درجات
ذلك لأن المؤمن الصادق حريص على ما هو نافع في الدين والدنيا، يُسابق ويسارع في الخيرات حتى ينال الدرجات العلا، لأنه في الآخرة عندما يدخل المؤمنون الجنة لن يكونوا في مستوى واحد، فالجنة درجات، وكل واحد ودرجته بحسب عمله في الدنيا، ولذلك من يكتفي بالحد الأدنى لا ينبغي أن يطمع أن يكون مثل من يجتهد ويجاهد نفسه ويحملها على عمل الصالحات.. فليس من يكتفي بالصلاة المفروضة كمن يضيف إليها النوافل، وليس من يكتفي بصوم رمضان كمن يصوم معه الأيام الفاضلة، وليس من يكتفي بزكاة ماله كمن يتصدق ويبذل من ماله في سبيل الله.. هي درجات، وكل من صدق الله في عمله وأخلص نيته له عز وجل كان أفضل.
فنحن نتعلم من الصحابة الحرص على الخير، والحرص على بلوغ أسمى الدرجات وأعلاها.
أفضل المؤمنين أحسنهم أخلاقا
وقد أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم عن سؤال الصحابي جوابا بسيطا في لفظه إلا أنه عميق في مدلوله ومضمونه، فلما سأله الرجل عن أي المؤمنين أفضل؟ أجاب النبي صلى الله عليه وسلم: «أحسنهم خلقا».
هذا أفضل المؤمنين، أفضل المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة أحسنهم خلقا، فالخلق الحسن هو الذي يرفع المؤمن إلى أعلى الدرجات. والخلق الحسن مما يتفاوت فيه المؤمنون؛ فقد يكون الإنسان مؤمنا ولكن خلقه سيء، فهذا يؤثر في إيمانه ويضره، بينما المؤمن الذي خلقه حسن هذا ينفعه في إيمانه ويزيد فيه ويرفع درجته عند الله.
والخلق الحسن ليس فقط أن لا تؤذي الناس، الخلق الحسن على حقيقته؛ أن تتعرض للأذى وتحتمل؛ أي تكف أذاك عن الناس، وتحتمل الأذى الذي يأتيك من الناس أيضا، هذا هو الخلق الحسن.
الرسول هو المثل الأعلى في الأخلاق الحسنة
وحتى نعرف درجة الخلق الحسن وقيمته عند الله عز وجل، نجد أن الله سبحانه وتعالى لم يمدح نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بشيء سوى بخلقه الحسن: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم: 4]، هذا دليل على الدرجة السامية والمنزلة العالية التي بلغها النبي صلى الله عليه وسلم في خلقه، وهي الدرجة التي أوضحتها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بما أوتيت من بلاغة الإيجاز، فقد جاء في حديث طويل في قصة سعد بن هشام بن عامر حين قدم المدينة، وأتى عائشة رضي الله عنها يسألها عن بعض المسائل، قال: فَقُلتُ: يَا أُمَّ المُؤمِنِينَ، أَنبئِينِي عَن خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَت: أَلَستَ تَقرَأُ القُرآنَ؟ قُلتُ: بَلَى. قَالَت: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ القُرآنَ.[رواه مسلم].
وقد مدح الله نبيه صلى الله عليه وسلم في آية أخرى بحلمه وسمو أخلاقه فقال سبحانه:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: 159]، وهذه الآية تفسر لنا سر تأثير النبي صلى الله عليه وسلم في الناس وسر التفاف الناس حوله وإقبالهم عليه، فمرد ذلك إلى لينه، وطيبته، وسماحته، وسهولة التعامل معه، ويُسر العلاقة به.
لقد جمع عليه الصلاة والسلام الأخلاق من جوانبها كلها، وبين لنا أن غاية رسالته وأن دينه كله يتلخص في الخلق الحسن: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» [رواه أحمد].
الخلق الحسن يبلغ بصاحبه ما لا تبلغ نوافل الأعمال، فيمكن أن يكتفي الإنسان بالفرائض ولا يفعل النوافل، ولكن أخلاقه عالية ومثالية ومعاملته للناس فيها حسن وفيها طيبة وفيها يُسر وفيها سماحة؛ يصدق مع الناس، يحسن معاملتهم، لا يغشهم، لا يخدعهم، لا يكذب عليهم، لا يستولي على أموالهم، لا يهددهم في شيء، لا في أعراضهم ولا في أموالهم ولا في أي شيء، وإذا ما آذاه أحد فهو يسامح ويتجاوز ويصبر، فهذا في أعلى الدرجات عند الله عز وجل، والأحاديث في هذا كثيرة، من ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم»[رواه أبو داود].
ونحن نعلم من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه تعرض لما لا يُحتمل من الأذى، من قومه وحتى من بعض المسلمين الذين آذوه بسوء خلقهم، ولكنه صلى الله عليه وسلم احتمل منهم ذلك وصفح عنهم وجعلهم يتعلمون منه الأخلاق الحسنة.
فإذن، رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشدنا إلى أفضل الأعمال وأحسن الخصال التي تبلغ بالمؤمن أعلى الدرجات وأسمى المنازل عند الله عز وجل في الدنيا وفي الآخرة، فحتى في الدنيا أفضل الناس عند الناس هو أحسنهم خلقا، فمن الذين يحبه الناس ويحترمونه ويقدرونه ويتمنون دائما أن يكون إلى جانبهم؟ هو الإنسان صاحب الأخلاق الحسنة، أما الإنسان الذي أخلاقه سيئة فلا يُحتمل لا كلامه ولا فعله ولا معاملته، فهذا كل الناس يتمنون ألا يروه وألا يلتقوا به نهائيا.
لذلك فإن الخلق الحسن هو أفضل ما ينبغي للمؤمن أن يتصف به.
تراجع الأخلاق في مجتمعنا المسلم
ومع الأسف، في مجتمعنا اليوم الأخلاق الحسنة ضعفت، لا نقول انعدمت، هي موجودة بحمد الله، ولكن صرنا نرى بعض الظواهر المسيئة التي يجب علينا أن نتخلص منها، في شوارعنا، وفي إداراتنا، وفي بيوتنا ومع جيراننا، ظواهر لا تليق بالمؤمنين: سوء الخلق، المعاملة الفظة الغليظة، الألفاظ البذيئة، لا ينبغي أن يكون هذا بين المؤمنين، ولابد أن تكون معاملتنا لبعضنا البعض معاملة حسنة، طيبة، فيها سماحة وفيها يُسر.
مع الأسف، هناك أناس لا يؤذنونك في العادة، لكن بمجرد أن تخطئ في حق أحدهم خطأ، مهما كان بسيطا ومن غير قصد وبحسن نية، يتحول إلى وحش ضار. ما هكذا ينبغي أن يتعامل المؤمن مع إخوانه، لابد من التسامح والتثبت من الخطأ وسببه والتأكد من قصد صاحبه. وأحيانا يأتي الخطأ من الشخص نفسه ويتصور أن الناس هم الذين أخطأوا في حقه.
يتبع

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com