قضايا و آراء

«التنويريون» إذ يطمسون معالم النور !

أ.د. عبد الملك بومنجل/

التنوير استمدادٌ من النور حيثما كان، وثناءٌ على أهله حيثما كانوا، والتزام بالحق حيثما لاح، ونشرٌ لأنواره ليستهدي بها الناس، ونصبٌ لأعلامه ليقتديَ بها طلّابُ الحقيقة.
فكيف إذا رأيتَ الكاتبَ يزْوَرُّ عن النور وهو يصدر من منبعه، ويستنكف عن الحق وهو يلوح من مطلعه، ويلوي أعناقَ الحقيقة لتزويرها على الناس، ويشوّه أعلامَ التنوير في أمّته ليُنصّبَ بدلا عنهم أعلامَ أمّة أخرى بين تنويرنا وتنويرها بعد المشرقين!
ذلك ما ظل طه حسين يمارسه على مدى عقود من حياته الفكرية والأدبية المولّية بوجهها شطرَ الثقافة الغربية مبدءا وولاءً، وشطرَ الثقافة الإسلامية أحيانا، ومجاملةً ليس غير.
كيف تكون تنويريا في أمة ربُّها النور، وقرآنُها النور، ونبيُّها السراجُ المنير، ورُبّان سفينتها العالِم المستنير، وأنت تطعن تصريحا وتلميحا في قدسية القرآن الكريم، ومصداقية السنة النبوية، وعدالة الخلافة الراشدة، وعبقرية العلماء الأعلام والأدباء الأفذاذ؟
لم يتورع طه حسين عن التشكيك في برهانية الدين غير مفرّق بين دين ودين، وبذل من الجهد وسعه لإثبات ما يزعمه من خصومة جوهرية بين العلم والدين، غيرَ مفرِّقٍ بين دين صحيحٍ ودين محرّف. وتناول السيرة النبوية كما لو أنها سيرة لرجل عظيم لا سيرة لنبي مرسل، مستنكفا عن الصلاة عليه حين يذكر اسمه، كما لو أن الصلاة عليه خروجٌ عن العلم. وفي كل مرة يتناول فكرة الدين يتعمد التسوية بين الإسلام والمسيحية، وحتى بقية الأديان الأخرى، زاعما أن الدين ظاهرة كغيره من الظواهر الاجتماعية، لم ينزل من السماء ولم يهبط به الوحي، وإنما خرج من الأرض كما تخرج الجماعة البشرية!
كان الهدف واضحا هو تمهيد الأذهان لتقبل فكرة الذوبان في الحضارة الكونية التي لا يمكن إلا أن تكون غربية. ولأن الدين الإسلامي بأصوله الصلبة وأركانه المتينة سيظل يقف عائقا دون هذا الذوبان الذليل، فقد كانت الخطة أن يُتحايَل على أبنائه بتجريده من خصوصياته المتعالية، وبرهانياته المتماسكة، والزعم أنه مثل بقية الأديان: يُعنى بالآخرة لا بالدنيا، وبالقلب والشعور لا بالعقل والعلم، وأن من الخير للناس أن يُعزَل عن شؤون الحياة كما عزله الغربيون.
أي خيانة للتنوير أن يُطوى عن القارئ العربي المسلم، بل عن البشرية جميعها، أن الإسلام هو دين الإيمان الذي يُبنى على البرهان وليس على التقليد أو الظن، وأن الله تعالى هو النور الذي ليس دونه نور، وهو الحق الذي ليس بعده حق، وأن القرآن العظيم هو كلامه حاملا أنوار الحقيقة، ومشاعل الهداية، وأنسام الرحمة للبشرية جمعاء؟
وأي خيانة للأمة أن يسعى أحد أبنائها إلى طمر منابع النور فيها، وطمس معالم الفضل والازدهار والعبقرية في تاريخها، طمعا في صرفها إلى منابعَ أخرى ليست من صفائها في شيء، وربطها بمعالمَ أخرى ليست من جلالها وجمالها واستقامة طريقها في شيء؟
لقد طعن طه حسين في بعض أخلاق عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، فضلا عن صحابة آخرين دونهما في المكانة. وهوّن من عبقرية عبد القاهر الجرجاني البلاغية متعسفا في عزو ما جاء به من نظريات متفردة إلى أصول يونانية. وحرص على تجريد ابن خلدون من عبقرية علمية مشهود له بها في التأسيس لعلم الاجتماع أو علم العمران. واجتهد في تحطيم الشخصية المعنوية لشاعر العربية الأكبر أبي الطيب المتنبي، بألوان من التحامل في الرأي والتعسف في الاستنتاج والتخبط في المنهج. وكان حريصا في الوقت نفسه على الرفع من شأن أعلام آخرين مسلمين وغير مسلمين، لا يني يخلع عليهم أوسمة الثناء والتبجيل، لاسيما الأوربيون منهم كديكارت، ودوركايم، وأندريه جيد، ومرجليوث، وكازانوفا.. حتى كأنه واحد منهم وليس واحدا محسوبا علينا.
أليس ذلك نكوصا عن الفطرة، وولوغا في التزوير، وخيانةً للأمة، وحيادا عن التنوير؟

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com