وراء الأحداث

رحيل عبد العزيز بوتفليقة: من مجد الثورة إلى فتنة السلطة

أ. عبد الحميد عبدوس/

أدركت المنية رئيس الجزائر السابق عبد العزيز بوتفليقة بمسكنه في إقامة الدولة ببلدية زرالدة، مساء يوم الجمعة 17سبتمبر 2021 وأعلن عن وفاته صباح السبت 18سبتمبر ،عن عمر ناهز 84 سنة، بعد معاناة طويلة مع المرض الذي جعله يقضي قرابة 8 سنوات مقعدا على كرسي متحرك (2013ـ 2021) منها ست سنوات خلال رئاسته للجمهورية . يعتبر عبد العزيز بوتفليقة أطول رؤساء الجزائر المستقلة حكما لقرابة عشرين سنة ( 1999ـ 2019) . دفن بعد ظهر الأحد 19سبتمبر 2021 بمربع الشهداء بمقبرة العالية في جنازة رسمية حضرها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون إلى جانب كبار المسؤولين في الدولة.

ولد عبد العزيز بوتفليقة في 2 مارس 1937 بمدينة وجدة شرق المغرب التي هاجر إليها والداه من مدينة ندرومة، بولاية تلمسان غرب الجزائر، وهو أكبر أشقائه الأربع (عبد الغني محامي ومستشار قانوني توفي في فيفري 2021، مصطفى طبيب مختص في الاذن والأنف والحنجرة توفي عام 2010، عبد الرحيم المدعو ناصر الأمين العام الأسبق لوزارة التكوين المهني ،وسعيد أستاذ جامعي ومستشار برئاسة الجمهورية خلال حكم عبد العزيز بوتفليقة، وهو محبوس حاليا بسجن الحراش، وله أختان شقيقتان هما، لطيفة وزهور).
التحق عبد العزيز بوتفليقة بصفوف جيش التحرير الوطني عام 1956 وهو في ال 19 سنة من العمر. ترقى إلى رتبة رائد في جيش التحرير الوطني. عين وزيرا للشباب والرياضة في حكومة أحمد بن بلة بعد استرجاع الاستقلال الوطني، وبعد وفاة الدبلوماسي، محمد خميستي في عام 1963، خلفه في منصب وزير الخارجية وسنه لم يتجاوز الـ26 من العمر ،فكان بذلك أصغر وزير خارجية في العالم. كما كان أطول وزراء خارجية الجزائر بقاء في هذا المنصب لقرابة خمسة عشر سنة (1963ـ 1978). وكانت فترة السبعينيات من القرن الماضي مرحلة تألق دبلوماسي لعبد العزير بوتفليقة، جاءت ذروتها في عام 1974 عند ترأسه للدورة 29 للجمعية العامة للأمم المتحدة التي انتخب لرئاستها بإجماع أعضائها، التي تم فيها دعوة رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات إلى إلقاء خطاب أمامها، وطرد ممثل نظام «الابارتيد» بجنوب افريقيا من قاعة الامم المتحدة.
بدأت متاعب عبد العزيز بوتفلبقة بعد وفاة الرئيس هواري بومدين الذي بسط عليه حمايته منذ تعارفهما بالولاية التاريخية الخامسة وفي جيش الحدود بالمغرب . بعد رحيل الرئيس هواري بومدين سرت شائعات في نهاية عام 1978عن نية بوتفليقة الترشح لمنصب رئيس الجمهورية، ولكن اختيار ضباط المؤسسة العسكرية وقع على العقيد الشاذلي بن جديد قائد الناحية العسكرية الثانية. بعد مرور قصير بمنصب وزير دولة ومستشار في حكومة الرئيس الشاذلي بن جديد. تعرض عبد العزيز بوتفليقة للإبعاد عن السلطة والمحاكمة.
غادر الجزائر عام 1981، بعد أن أتهم بعدة عمليات اختلاس بين سنة 1965 وسنة 1978 وصلت إلى 6 ملايير سنتيم آنذاك حيث أصدر مجلس المحاسبة أمرا قضائيا بتوقيفه، ولكن الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد أسر لمقربيه أنه غير مستعد لإدخال السجن مجاهد في ثورة التحرير ،فتم التغاضي عن الأمر بالقبض الدولي. عاد إلى الجزائر في مطلع 1987 بعد ما استفاد من عفو الرئيس الشاذلي بن جديد. تنقل في منفاه الاختياري بين باريس وجنيف ودولة الإمارات العربية .في 1994 رفض منصب رئيس المجلس الأعلى للدولة الذي عرضته عليه قيادة الجيش، فعاد إلى دولة الإمارات التي كان يحظى فيها برعاية وتكريم حاكم الإمارات الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان.
عاد إلى الجزائر مجددا في 1999 وفاز برئاسة الجمهورية بعد انسحاب المرشحين الخمسة المنافسين له في الرئاسيات، بعد ظهور مؤشرات على مساندة القيادة العسكرية لترشحه، ثم فاز بثلاث عهدات رئاسية متتابعة، وفي سنة 2005 أصيب بوعكة صحية قال عنها الإعلام الرسمي بأنها «قرحة معدية» بينما تحدثت مصادر إعلامية اجنبية عن إصابة الرئيس ب «جلطة دماغية».
عند تقديم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الاستقالة من منصبه في أفريل 2019 بعد ثورة الغضب الشعبي التي حركها ترشحه وهو مقعد لعهدة خامسة، ومثلت إصرارا لجموع الحراك الشعبي بكل فئاته لرفض استمرار عبد العزيز بوتفليقة في حكم الجزائر.
كتبت موضوعا عن معرفتي بالرئيس بوتفليقة ونشر في حينها بجريدة البصائر في 2019 ومما جاء فيه:
«التقيت عبد العزيز بوتفليقة سنة 1996 قبل أن يصبح رئيسا للجمهورية في فندق “الميريديان” بأبوظبي، وكان مقيما ـ آنذاك ـ بدولة الإمارات العربية المتحدة ويحظى بتقدير مؤسس دولة الإمارات الحديثة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ـ رحمه الله ـ حيث كان السيد عبد العزيز بوتفليقة من بين مستشاريه. كنت برفقة الكاتبة الإعلامية الجزائرية فتيحة بوروينة في مهمة صحفية.
جلسنا في صالون الفندق نتجاذب أطراف الحديث مع السيد عبد العزيز بوتفليقة الذي كان كعادته متحدثا لبقا واسع الثقافة وعميق الاطلاع على المحيط الدولي وعلى الواقع المعقد والمتأزم للجزائر التي كانت تعيش في قلب ما اصطلح على تسميته “العشرية السوداء”. سألنا بابتسامة عما نفعله في أبوظبي، وأخبرناه بأننا في مهمة صحفية للمشاركة في جائزة عبد العزيز البابطين، عرض علينا أن يرافقنا إلى إمارة الشارقة التي يحكمها صديقه الدكتور سلطان بن محمد القاسمي لإجراء تحقيقات صحفية عن معالم النهضة الكبيرة التي حققتها إمارة الشارقة وعن إنجازاتها في المجال الزراعي. شكرناه على عرضه واعتذرنا له بضيق الوقت لأننا كنا قد حجزنا تذكرتي العودة إلى الجزائر في يوم الغد.
قبل هذا اللقاء بعامين كان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة قد غادر الجزائر للمرة الثانية، بعد أن رفض العرض الذي قدمه له جنرالات الانقلاب على المسار الانتخابي لتولي منصب رئيس الدولة عقب نهاية ندوة الوفاق الوطني سنة 1994. لم أجد أنه من المناسب أن أسأله في هذا اللقاء العابر عن الأسباب التي جعلته يرفض هذا المنصب الرفيع الذي كان يسيل له لعاب كثير من السياسيين.
بعد فترة قصيرة انضم إلى مجلسنا عدد من الإعلاميين الجزائريين العاملين في أبوظبي، الذين جاؤوا للسلام علينا ومنهم الزملاء مدني عامر، ومراد شبين، وعمار شواف، وهم من نجوم الإعلام التلفزيوني.
تشعب بنا الحديث إلى قضايا عديدة منها مدى نفوذ وتأثير “حزب فرنسا” في الجزائر، لم يكن الرئيس بوتفليقة متحمسا للحديث في هذا الموضوع.
لقد سبقتني الزميلة فتيحة بوروينة في الكتابة عن هذا اللقاء حيث كتبت في سنة2015 مقالا تحت عنوان “عين المكان/ جوعى.. ومن تحت أقدامهم نقتات!!” جاء فيه: ”في شهر أكتوبر من عام 1996 التقيت الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بأحد أكبر فنادق إمارة أبو ظبي، كنت في مهمة لتغطية فعاليات جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري – دورة أحمد مشاري العدواني – ضمن وفد من الشعراء والكتاب من بينهم الزميل عبد الحميد عبدوس، لَمَحْنَا بوتفليقة من بعيد وهو يحتسي فنجان قهوة مع صديق، اقتربنا منه بعدما فرغ، فتعرّف علينا ثم دعانا إلى قهوة فجلسنا إليه واستغرقنا في الحديث إلى أن قادنا (أي الحديث) إلى الطفرة التي شهدتها الإمارات العربية المتحدة، وأبدى الرئيس آنذاك إعجابا منقطع النظير بالتجربة التنموية بإمارة الشارقة في الجنوب بل وعرض علينا التنقل إلى هناك لإعداد روبورتاجات تحكي قصة تحول “صحراء قاحلة وسهوب رملية إلى واحة خضراء”.
كان انطباعي عن هذا اللقاء هو الشعور بالأسف لكون الجزائر تمتلك إطارات عالية الكفاءة مثل السيد عبد العزيز بوتفليقة، ولكنها لا تستفيد من تجاربهم ومساهمتهم في حل أزمتها المتعددة المستويات والامتدادات بسبب كونهم مبعدين أو لاجئين في عواصم الشرق والغرب. ولم يخطر ببالي، آنذاك، أن محاوري عبد العزير بوتفليقة سيعود إلى الجزائر بعد ثلاث سنوات من ذلك اللقاء ليحكم الجزائر لمدة عشرين سنة حقق خلالها إنجازات لا تنكر، ولكنه تشبث بالسلطة إلى الحد الذي جعل المطالبة برحيله والوقوف ضد ترشيحه لعهدة رئاسية خامسة يكاد يمثل إجماعا وطنيا وخصوصا، من طرف فئة الشباب الذين ولد الكثير منهم وعاشوا تحت حكم الرئيس بوتفليقة.
عندما عاد الرئيس بوتفليقة إلى الجزائر ليكون مرشح السلطة الفعلية للرئاسة في الجزائر سنة 1999 اقترح علي الزميل سليم صالحي مدير جريدة (العالم السياسي) التي كنت رئيس تحريرها الذهاب إلى فندق (الأوراسي) لطلب إجراء مقابلة صحفية مع بوتفليقة، اعتذرت له بأن إجراء مقابلة صحفية مع السيد بوتفليقة قد يفهم من طرف قراء جريدتنا الحريصة على استقلاليتها بأنه انحياز لمرشح السلطة الفعلية، لم يصر الزميل سليم صالحي على اقتراحه ولكنه ذهب رفقة السيد محمد الشريف عباس وزير المجاهدين الأسبق لزيارة بوتفليقة في فندق الأوراسي حيث كان يستقبل زواره، وبعد عودته من مقابلته السيد بوتفليقة قال لي: ليس هناك شك في أن بوتفليقة سيكون الرئيس المقبل للجزائر، ولكن عدد الانتهازيين الذين رأيتهم يحيطون به يجعلني غير متفائل بالانتخابات المقبلة. واتفقنا على أنه إذا لم يكن بإمكاننا تحويل اتجاه الرياح السياسية، فإنه يمكننا الالتزام بمهمتنا الصحفية بحياد وموضوعية دون انحياز لمرشح من الفرسان السبعة المرشحين للرئاسيات (عبد العزيز بوتفليقة، أحمد طالب الإبراهيمي، عبد الله جاب الله، حسين آيت أحمد، مولود حمروش، مقداد سيفي، يوسف الخطيب) الذين يعتبرون من أبرز رموز الفكر والنضال السياسي الجزائري.
موقف الحياد الذي اعتمدته الجريدة تجاه المرشحين الرئاسيين لم يرق لفريق الحملة الانتخابية للمرشح الحر عبد العزيز بوتفليقة، وكانت أكثر الاحتجاجات على التغطية الإعلامية للجريدة للحملة الانتخابية، قبل انسحاب المرشحين الستة من السباق الرئاسي، تأتي من طرف مداومة المرشح الحر عبد العزيز بوتفليقة، وكان المرحوم أحمد حوري مدير خلية الإعلام في المداومة كثيرا ما يتصل بي للاحتجاج على تغطية جريدة (العالم السياسي) وخصوصا على ما كان يكتبه الزميل سعد بوعقبة في عموده الصحفي الشهير بأسلوبه الساخر اللاذع.
كان الرئيس بوتفليقة كثيرا ما يتندر على “الغباء السياسي” لرؤساء الجزائر الذين جاؤوا بعد رحيل الرئيس هواري بومدين ـ رحمه الله ـ وخصوصا على الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد ـ رحمه الله ـ الذي قطع عليه طريق خلافة بومدين، ولكن ذكاءه وحنكته الدبلوماسية لم يعصماه من اقتراف نفس الأخطاء السياسية التي وقع فيها سابقوه والتي نسفت جسور الثقة بين الشعب والسلطة، فهل يعود ذلك إلى فتنة السلطة وحب الرئاسة، أم إلى التأثير السيء للبطانة الفاسدة التي تغير مواقفها بنفس السهولة التي تغير بها جواربها، أم لكليهما معا؟»
وانتهى «عهد العزة والكرامة» الذي وعد به الشعب في وحل كبير من الاستبداد والفساد بطريقة دراماتيكية، كانت آخر كلمات عبد العزيز بوتفليقة قبل مغادرة السلطة: «أطلب منكم وأنا بشر غير منزه عن الخطأ، الـمسامحة والـمعذرة والصفح عن كل تقصير ارتكبته في حقكم بكلـمة أو بفعل».

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com