الصبر على الفتن جهاد والبطولة الحقـــة في أنك لاتظلـم العباد

الشيخ محمد مكركب أبران/
من هنا يبدأ فن الرجولة وشهامة المروءة، من أن البطل ليس هو الذي يخافه الناس، وإنما البطل هو الذي ينصر الناس ويحميهم من الظلم، ولايظلم أحدا منهم، فالبطل ليس هو الذي يستعبد الناس ويستذلهم، ويستولي على حقوقهم، إنما البطل هو الذي يحرر العباد، ويؤدي لهم حقوقهم. يمكن أن يُظْلَمَ الإنسانُ، ولا أحد من المخلوقين يستطيع أن يمنع نفسه من أن لايظلمه أحد، ولكن بإمكان هذا الإنسان أن لايظلم أحدا، وهذا يقتضي منه جهادا كبيرا، وصبرا أكبر، وهذه هي البطولة، أن تصبر على الفتن ولا تفتن الناس، أن تصبر على الأذى ولا تؤذي الناس، أن تصبر على الألم ولا تؤلم الناس. ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ. فَقَالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.﴾ (يونس: 84، 85) وفي الحديث. عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فَمَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟» قَالَ قُلْنَا: الَّذِي لَا يَصْرَعُهُ الرِّجَالُ، قَالَ: [لَيْسَ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ] (مسلم: 2608)
الصبر مع الذاكرين والمساكين وإن كانوا فقراء: القوي الأمين هو الذي يجاهد ويصابر من أجل أن يُسْعِد الناس، ويلازم المساكين، ويصبر معهم، سينال راحة الضمير، ويذوق حلاوة الاطمئنان، ما أجمل أن يعلم الملوك والأمراء والرؤساء، خُلُقَ الزاهدين بحق، كما علم ذلك أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، رضي الله عنهما وغيرهم من الصالحين كثير. قال الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ (الكهف:28) ما أجمل أن يلازم المسؤول مهما كان في سلم المسؤولية، أن يلازم الطبقة الكادحة، وبمفهوم العصر أن يكون في خدمة الشعب، ولكن لن يستطيع ذلك حتى يقنع بمستواهم المعيشي، أن يكون بيته كبيتهم في حيهم، وأكله وشربه كأكلهم وشربهم، وثيابه كثيابهم، أي أن يكون كعمر بن الخطاب في الزهد، والعدل، والتقوى، ويفري فريه.
قلنا: إن الصبر على الفتن جهاد. فما هي هذه الفتن؟
ما معنى الفتنة لغة؟ ورد في لسان العرب.{جِماعُ مَعْنَى الفِتْنة: الِابْتِلَاءُ والامْتِحانُ وَالِاخْتِبَارُ، وأَصلها مأْخوذ مِنْ قَوْلِكَ فتَنْتُ الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ إِذا أَذبتهما بِالنَّارِ لِتُمَيِّزَ الرَّدِيءَ مِنَ الجيِّدِ} (13/317) ومن ثم فإن كل ما يبتلى به المسلم من المصائب، والمحن، والأذى، والمال، والنساء، والسياسة الاستبدادية، وانتشار المفسدين، ومروجي المخدرات، والغلاة البغاة الحرابيون وهم أي: الحرابيون (الإرهابيون) هم أشد أنواع الفتن. وكل المسلمين يتعرضون لنوع من الفتن، إن لم تكن هذه، فتلك، وإن لم تكن تلك، فالأخرى، وهكذا. قال الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ.﴾ (العنكبوت:2،3)
من فتن النساء ما تعرض له يوسف عليه السلام: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ.﴾ (يوسف:23،24) يوسف يبتلى ويمتحن، فيتذكر أن البطولة في الصبر وخوف الله عز وجل. فاستعذ بالله، عندما تحاط بك مخالب الفتنة وقرونها لاتنس الله سبحانه، ثم لاتنس أن صبر ساعة قد يمنحك سعادة الأبد، لاتنس هذا. ﴿قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾.
من فتن المال ما تعرض له خباب رضي الله عنه: قال: كنت رجلا قينا، فعملت للعاص بن وائل، فاجتمع لي عنده، فأتيته أتقاضاه، فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: «أما والله حتى تموت ثم تبعث فلا»، قال: وإني لميت ثم مبعوث؟ قلت: «نعم»، قال: فإنه سيكون لي ثم مال وولد، فأقضيك، فأنزل الله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا، وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا﴾ (مريم: 77) تعلم من صبر هؤلاء، إياك أن تكذب من أجل المال، أو تزور وثائق، أو تسرق، أو تأكل رشوة، أو تتهم، أو تفعل أي فعل يغضب الله من أجل الدنيا، حذار، ثم حذار.
وصهيب الصحابي رضي الله عنه، أقبل مهاجرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش، فقالوا: لا نتركك تذهب عنا غنيا وقد جئتنا صعلوكا، ولكن دلنا على مالك بمكة ونخلي عنك، وعاهدوه على ذلك ففعل، (فتنازل عن كل ماله من أجل دينه وآخرته،) فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل قول الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ (البقرة:207) فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ربح البيع أبا يحيى] وتلا عليه الآية،} (القرطبي: 3/20)
ومن الذين فتنوا بالمال وخسروا البيع (قارون) وصاحب الجنتين الوارد خبره في سورة الكهف. وأصحاب الجنة الواردة قصتهم في سورة القلم. قال الله تعالى عن قارون. ﴿فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ.﴾ (القصص:81)
ومن الذين ابتلاهم الله بالحكم والسلطان فربحوا البيع، منهم الخلفاء الراشدون وغرهم من قبلهم كذي القرنين، ومن بعدهم كصلاح الدين. ومن الذين ابتلاهم الله بالحكم والسلطان فخابوا وخسروا كثير وكثير وكثير. منهم:{فرعون وهامان وجنودهما} قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص:4) ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ (القصص:8)
وعلماء اختاروا الدنيا فخسروا البيع: ومنهم بلعام بن باعوراء، الذي كان من الغاوين. قال الله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ.وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ﴾ (سورة الأعراف:175 ـ 177) وينطبق مدلول هذه الآيات على كل عالم لم يعمل بعلمه، وخالف أمر الله تعالى فباع آخرته بدنياه، وعلى كل عالم أو داعية أو مفت أو قاض حكم، أو أفتى متعمدا بغير حكم الله تعالى. كما ينطبق المعنى العام من حيث الموعظة على كل حاكم أعطاه الله الملك، فطغى وظلم وأفسد في الأرض.